الدكتور حسن بن عبد الهادي حميتو
New member
تلبية لطلب الاخت ليلى الكنتاوي أضع هنا نص البحث الذي شاركت به مؤخرا بالمؤتمر الأول للقراءات القرآنية المنعقد بمراكش، ويتعلق البحث بأحد أعلام إقراء العشر النافعية والعشر الكبرى بمضمن الشاطبية والدرة بحوز مدينة مراكش، وهو الشيخ إبراهيم ابن القاضي الماسي السوسي رحمه الله، أرجو أن تكون فيه فائدة لرواد هذا الموقع.
للعلوم كما للفنون والمعارف عبر التاريخ فتراتٌ من المد والقوة، وأخرى من الانحسار والضعف، هي نتيجة لما يتهيأ لها في مراحل تاريخها المختلفة من ظروف مواتية أو معاكسة لازدهارها ونمائها، وعواملَ تسعى بها إلى النهوض تارة أو إلى الركود أخرى. وإن أهم تلك العوامل الضامنة لنهضة العلوم ونَفاق سوقها تضافر همم رجالات السيف والقلم من علماء وحكام على خدمة العلم وتشجيع طلابه ودعم العلماء فيما هم بسبيله من نشر العلوم وإحياء مواتها وتجديد شبابها.
وكم نقف في تاريخ المغرب على علوم تجددت العناية بها فراجت سوقها بعد كساد واشتدت الرغبة فيها بعد طول إهمال حين تداعت إلى الاهتمام بها والاحتفاء بمنتحليها همم النخبة العالمة والسلطة الحاكمة. ومن نماذج ذلك الشاهدة بصدقه تلك الحظوة الكبيرة التي نالها علم القراءات وفروعه الدائرة في فلكه في عهد دولة بني مرين وبخاصة في عهد يعسوبها السلطان أبي الحسن علي بن عثمان المريني وابنه أبي عنان فارس بن علي، اللذين كانا من المشاركين في هذه العلوم، إذ كان السلطان أبو الحسن من حفاظ السبع، وكان يكتب المصاحف الشريفة ويضبطها بيده ليوقفها على أحد المساجد الثلاثة المقدسة بمكة والمدينة والقدس، وكان يقرب إليه القراء والمجودين، فكان في بلاطه وبلاط ابنه أبي عنان كبار قراء العصر كالإمام أبي عبد الله الصفار والإمام ابن مرزوق والإمام أبي العباس الزواوي صناجة ذلك العصر والمقرئ الخاص للسلطان أبي الحسن وغيرهم، فلا غرو أن يكون هذا العصر عصر نهضة قرائية أعادت لفنون القراءة والأداء عنفوان شبابها وأبرزت كبار أئمة هذا الشأن كالإمام ابن القصاب والخراز وابن بري وأبي الحسن القرطبي وأبي زيد الجادري والقيسي وأبي وكيل الفخار والشباني والتنسي وهلم جرا.
يقول الدكتور عبد الهادي حميتو منوها بعناية السلطان أبي الحسن بالقراء ومبرزا انعكاس هذه العناية الرسمية على الساحة العلمية والإقرائية خاصة بحاضرة فاس: " ولقد كان للقراء والقراءات الحظ الأوفى من هذه العناية، فكانت المدينة ـ يعني فاسا ـ بسببها مقصدا لكثير من الراغبين في الإفادة منها تعلما وتعليما، ولقد انعكست هذه العناية من لدن الدولة في أكثر من مظهر ومجال، فكان من ذلك تقريب علماء القراءات وانتدابهم رسميا للتأديب والاقراء في المدارس والجوامع العامة والخاصة، واستعمالهم في الوظائف الرفيعة كالكتابة العليا والقضاء والإمامة أو دمجهم ضمن الحاشية وجلساء السلطان. . . وكان من مظاهر هذه العناية اتخاذ ملوك هذه الدولة مشايخ من أعلام القراء ليأخذوا عنهم هذه العلوم. وسيأتي لنا في تراجم طائفة من القراء كأبي الحسن بن بري وأبي العباس الزواوي وأبي عبد الله الصفار كيف كانوا يعارضون ملوك الدولة بالقراءات. وهكذا استقطبت عاصمة الدولة أكابر العلماء والقراء، وأسندت إليهم المناصب وأجريت عليهم الرواتب فاطمأن بهم المقام، وتنامى بسببهم جانب البحث والنظم والتأليف، وعمرت المساجد المختلفة بالمدرسين لمختلف الفنون، وكانت مجالس الخلفاء أيضا حافلة بما كان يتطارحه العلماء فيها من مباحث وعلوم".
إن هذا الازدهار لعلوم القراءة رواية ودراية وانتعاش العناية بها عموما أو بأحد فروعها، يتجدد كلما تحقق شرطه الذي ألمعنا إليه، والمتمثل في الدعم الرسمي لأهل هذه العلوم والاحتفاء بهم والقيام بمعاهدهم ونفقات طلبتهم، وتكريم المتفوقين منهم، واستعمالهم في الوظائف اللائقة بهم، مما يشجع الشيوخ والطلبة على المضي في هذا الدرب الشاق والطويل.
وهو ما كان يحرص عليه سلاطين الدولة العلوية الشريفة، فكثر في عهدها القراء وازدهر الإقراء، وممن عرف عنه ذلك واشتهر به السلطان العالم محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله.
ومقصدنا في هذا البحث التعريف بأحد أعلام الإقراء المتأخرين الذين حظوا بدعم السلطة الراشدة لملوك هذه الدولة العلوية الشريفة، فأحيا الله على يديه رسوم العشرين الصغرى والكبرى بربوع أحواز مراكش وما إليها من جنوب المغرب بعد أن كاد نجمها يؤذن بالأفول.
إنه الشيخ المقرئ العشري إبراهيم بن أحمد ابن القاضي الأغبالي الماسي السوسي رحمه الله.
وسأتناول التعريف به في خمسة مباحث كالتالي:
المبحث الأول: في ذكر ترجمته وأسرته وبداياته.
المبحث الثاني: في ذكر مشيخته وأسانيده.
المبحث الثالث: في بعض مناقبه وثناء العلماء عليه.
المبحث الرابع: في تصدره للإقراء بمدرسة أخليج وسبب ذلك.
المبحث الخامس: في تلاميذه وإشعاع مدرسته.
المبحث السادس: في وفاته وآثاره.
الخاتمة: وفيها خلاصات وتوصيات.
والله ولي التوفيق.
المبحث الأول: في ترجمة الماسي وذكر أسرته وبداياته.
قبل الشروع في ترجمة الشيخ إبراهيم الماسي لا بد من الإشارة إلى أن الجانب الأعظم من أخبار هذا الشيخ والمعلومات عنه ـ إذا ما استثنينا ما سطره الشيخ محمد المختار السوسي في معسوله والشيخ العدل إبراهيم مكرم في تعريفه بماسة ـ مبناه على روايات شفهية يتناقلها الشيوخ والقراء فيما بينهم رواية عن تلاميذ الماسي أو من عاصره، وذلك لقرب العهد بزمنه وللتفريط الذي يوصف به المغاربة في تدوين أخبار شيوخ العلم فيهم حتى أتى على كثير منها الإهمال والنسيان وتقادم العهد، ولذلك اعتمدت في كثير من جوانب هذا البحث على ما سمعته من روايات شفوية من بعض مشايخ الإقراء الأحياء من تلاميذ تلاميذ الماسي أو ممن تلقى عنهم ذلك بالسماع.
ــ اسمه ونسبه ونسبته:
هو الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله ند القاضي الأغبالي الماسي السوسي، يعرف بابن الفقيه.
والأغبالي أو "الأغبالويي" ـ كما يعبر صاحب المعسول ـ نسبة لمدشر أو قرية "أغبالو" الواقعة على ضفة وادي ماسة، وذكر الشيخ محمد المختار السوسي أن لهذه القرية ذكرا في كتاب الاستبصار أواخر القرن السادس الهجري في حدود سنة 590 هـ.
وقد زرتها فرأيت بها مسجدا عتيقا، ويغلب عليها اليوم البناء الحديث الذي يظهر منه مبلغ الثراء الذي يتمتع به كثير من قاطني ماسة بسبب ما جنوه من أموال وفيرة من الهجرة التي كانت لهم في عقد الستينات نحو الديار الفرنسية وغيرها من بلاد أوربا للعمل، وما صاروا يتقاضونه بعد عودتهم من مبالغ مهمة من معاشات التقاعد، وهي تابعة اليوم إداريا لجماعة سيدي وساي دائرة ماسة.
وعرفت هذه القرية في تاريخ سوس بمدرستها العلمية "الاغبالوية" التي اشتهرت ـ كما يذكر عنها السوسي ـ برفع راية القراءات منذ أجيال، وعرف بها في سوس العالمة فقال: " نسبة إلى قرية: أغْبَالو، وهذه الأسرة تقول: إنَّها عمرية النسب من بني عدي، وقد زخرت الأسرة بالعلماء والقراء العشريين الكبار، ومن بينهم سيدي مُحمد بن الحسن، وسيدي إبراهيم أستاذ آيت أوْرير بِمسفيوة أخيرا".
وقرية أغبالو إلى زمن قريب أغنى قرى ماسة بحفظة كتاب الله بالروايات الحرفية كما نبه على ذلك العدل الحاج إبراهيم مكرم في كتابه عن ماسة، حيث عرف بطائفة منهم ثم قال: "ومن أغبالوا جماعة من القراء يعدون بالعشرات، وبسردهم يضيق بنا المقام".
و"الماسي": نسبة لبلدة ماسة الواقعة جنوب مدينة أكادير على شاطئ المحيط الأطلسي وتبعد عنها بمسافة 40 كلم. وتعرف في تاريخ الفتح الإسلامي برباطها الشهير ومسجدها المنسوب لعقبة بن نافع الفهري فاتح بلاد المغرب والممهد للإسلام فيه. ولماسة مكانة خاصة لدى الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، يدل على ذلك وفرة ظهائر التوقير والإعفاء من الكلف والمطالب المخزنية التي بأيدي أهل رباط ماسة، نشر منها الشيخ محمد المختار السوسي ما يربو على العشرين وثيقة في كتابه في خلال جزولة.
والسوسي: نسبة لقطر سوس الأقصا المعروف الذي نبغ منه جماعة في مختلف العلوم والفنون، وخاصة في علم القراءات الذي برَّز فيه صاحبنا الماسي، كما أشاد بذلك السوسي متأسفا على ما آل إليه الحال لعهده فقال في ترجمة الشيخ عبد الله بن أحمد البلفاعي الهشتوكي الحمزاوي من المعسول: " ثم لم ينشب هذا الفن أن اندثر بالكلية، حتى ليعد على الأصابع الآن من لا يزالون يتقنونه، بعدما كان مزدهرًا في (سوس) حتى إن (سوس) صارت تضاهي (جبالة) فيه، ثم طوى بساط الجميع بما فيه الآن بعد 1370ه" ـ وقال في موضع آخر بعد ذكر طائفة من السوسيين حفاظ العشر والسبع: " كانت القراءات السبع، بل العشر، بل العشران مزدهرة بسوس دائماً، ولها مدارس خاصة في ( هشتوكة ) و ( رأس الوادي ) و ( بعمرانة ) و ( ماسة ) وغيرها، ومضى أعلام كبار صالحون من صفوف حملتها، كمحمد بن إبراهيم أعجلي، وتلميذه الحاج محمد الركراكي وأحمد أنجار، والضحاكي وعلي التناني، وعلي الخياطي، ومحمد بن العربي الهواري، وعبد الله خرباش، وأمثالهم، ومن المتأخرين منهم الحاج محمد التيزنيتي، وعبد الله الركراكي، وإبراهيم الماسي، وكان هؤلاء وإزاءهم آخرون يبثون هذه القراءات المختلفة، إلى أن تبدلت الأحوال، وأفل نجم الاعتناء بغير حرف ورش، فلم يبق الآن من أعلام الفن إلا المترجم مع ثلة قليلة جدا يعدون على الأصابع، هم هامة اليوم أو غدا، ثم كنا نتعلل بأن في بقاء حرف ورش خيرا كثيراً، إلا أننا اليوم نشاهده أيضاً يندثر بسرعة، حتى إننا لنرى جيلا ينشأ بيننا يكاد يجهل كل شيء، فلئن بقي الحال هكذا - ونخاف أن يبقى كذلك - فإن سوس ستكون خاوية على عروشها، فيطوى فيها القرآن طيا، لا قدر الله، وما يربح بعد خسران القرآن؟ ".
ويعرف إبراهيم الماسي بابن القاضي أو "ند القاضي"، قال الشيخ محمد المختار السوسي: "وتسمى الأسرة "آل القاضي"، ولا ندري من هو القاضي من رجالها".
وحكى لي الشيخ الطاهر حريري ـ رحمه الله ـ أن الشيخ الماسي كان أعور إحدى العينين نحيف الجسم، وسمعت من فقهاء سوس أن الشيخ كان له في صغره ولع بالضرب على العود والرباب.
وذكر الشيخ العدل الحاج إبراهيم مكرم أن الشيخ الماسي لم يتزوج قط، وهو خلاف ما في المعسول؛ إذ ذكر الشيخ محمد المختار السوسي في ترجمة الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر البوشواري ما يفيد إصهار الشيخ الماسي إليه، حيث قال في ترجمته: " هو ممن يحفظون حرف المكي، وعمي أخيراً، وكان يُدَرِّس في كُتّاب بدرب الحلفاوي بمراكش، وهو الذي تزوج بنته سيدي إبراهيم الماسي الأستاذ الشهير في مدرسة (أيت اورير)".
ــ أسرته:
أما أسرة الشيخ الماسي فيرتفع نسبها إلى الرجل الصالح أحمد بن عمرو دفين "أمزو" بهوارة، وبعضهم يجعلهم عدويين من نسل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن لا تعرف لذلك صحة ولا ثبوت.
وهذه الأسرة المعروفة بآل القاضي أسرة علم وقرآن وقراءات عرفت بذلك في سوس، قال السوسي: "ثم إن هذه الأسرة من الأسر العالمة القارئة التي تسلسل فيها العلم والقراءات". وقال عنها وهو يتحدث عن الفقيه الصوفي الحسن الماسي في كتابه من أفواه الرجال: "وقد حدثني عن أسرته أنباء تدل على أنها حافلة في الماضي بالمعارف والسيادة ودراسة القراءات السبع، ويكفيك أن سيدي إبراهيم ـ يعني الشيخ إبراهيم الماسي ـ هذا اليوم هو المنفرد في تلك الأحواز ـ يعني أحواز مراكش ـ بإقراء القراءات بعد مدرسة سيدي الزوين".
وعرف السوسي بطائفة من أهل القرآن والعلم في هذه الأسرة، يوضحهم التشجير التالي مع التعريف بكل واحد منهم:
عبد الله
عبد الله
عبد الله
ــ تمييز المترجم عن بعض مشاركيه في النسبة لماسة:
وقد يلتبس اسم مترجمنا بشخصين آخرين كلاهما يعرف بإبراهيم الماسي:
الأول: الفقيه إبراهيم بن محمد الماسي نزيل طنجة، من أهل القرن الثاني عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي، له تأليف عن تاريخ سوس وأخبار بلده ماسة ألفه باللهجة الأمازيغية سنة 1834 م حين كان مقيما بطنجة، بطلب من أحد أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي المقيم بطنجة يسمى ويليام براون هودسون، ثم ترجمه إلى اللغة العربية، ليترجمه هودسون إلى الإنجليزية اعتمادا على النص العربي. وقد ذكر في تأليفه أنه حفظ القرآن في مدرسة ماسة العتيقة عند الفقيه سيدي محمد بن محمد الماسي الذي لازمه مدة 12 سنة ونصف، ثم انتقل إلى قبيلة تازروالت لطلب العلم في المدرسة العتيقة لسيدي أحمد بن موسى حيث درس على الشيخ محمد أعجلي (ت 1271 هـ)، ثم انتقل للدراسة بأكلو عند الفقيه محمد بن حساين الجراري لدراسة العلم.
والثاني: الشيخ الحاج إبراهيم بن محمد بن الحسين ند الفقيه الحامدي الماسي الزاوي الملقب بـ"إد الفقيه" نسبة إلى أسرة "إد الفقيه" المعروفة بدوار الزاويت بماسة حيث نشأ وترعرع. ولادته سنة 1311 هـ / 1889 م، وتلقى تعليمه الأولي لدى والده بمسجد مدشر "تكمي لجديد" بماسة، ، وتابع حفظ القرآن بمسجد "الزاويت" لدى الشيخ ند سبعين الماسي وغيره، ثم التحق بمسجد "أيت إلياس" بماسة حيث تلقى قراءة المكي لدى الشيخ أحمد أعلي، وانتقل لأخذ القراءات إلى مدرسة سيدي همو الحسن بالاخصاص لدى الشيخ محمد الحسن الأغبالي الحمزاوي الماسي سنة 1324 هـ، كما درس القراءات على الشيخ عبلا أركراك بمدرسة علال بهشتوكة وعلى تلميذه الشيخ مبارك املك بآيت ميلك، ثم رحل سنة 1333هـ في طلب العلم إلى بلاد أولاد أبي السباع للدراسة على العلامة القاضي الشيخ محمد بن عبد الكريم الضُّو السباعي بمدرسة أولاد مومنة، وبقي عنده أربع سنوات يدرس عليه العلم قبل أن يشارطه الشيخ الضو في مسجده لتعليم القرآن والمتون ستة أعوام أخرى، ليرجع بعدها سنة 1343 هـ فيشارط في عدة مساجد من بلدته ماسة، وحج سنة 1352 هـ رفقة الشيخ علي الاسيكي، ولم يلبث أن طلبه سكان قرية بنكمود بهشتوكة ليشارط عندهم مدة ثلاث سنوات، وهناك لمع نجمه وتقاطر عليه الطلبة، ونظرا لتكاثر الطلبة وضيق مدرسة بنكمود انتقل بطلب من شيخه علي الاسيكي إلى مدرسة سيدي أمزال بأيت إيلوكان، وهناك تخرج عليه أفواج من الطلبة وقراء الروايات، أشهرهم الحاج الشيخ إبراهيم النومري البصراوي شيخ مدرسة بنكمود والحاج محمد الرسموكي البصراوي شيخ مدرسة أزرو مسكينة والحاج الحسن مهذب الماسي وصهره السيد بوسلام وغيرهم، وتزوج بنت الحاج الحسين الإفراني، وفقد كريمتيه في آخر عمره، فترك التدريس ولزم بيته بزاوية ماسة إلى أن وافاه الأجل سنة 1393 هـ ـ 1973 م.
ويميز الشيوخ السوسيون بين هذا الشيخ وبين مترجمنا باللقب، فيلقبون هذا الشيخ "ند الفقيه" أو "إد الفقيه"، ويلقبون مترجمنا بلقب "إويس الفقيه" أو "بلفقيه" (ابن الفقيه).
المبحث الثاني: رجال مشيخته وأسانيده في القراءة.
ما كان للشيخ الماسي أن يصل ما وصل من الشفوف والإتقان في علم القراءات القرآنية لولا رحلته إلى مناطق مختلفة من المغرب في طلب هذا الشأن، وتلقيه تلك المعارف الشريفة عن ثلة من المتصدرين لإقرائها داخل جهته سوس وخارجها. وذكر لي بعض فقهاء سوس كالشيخ إبراهيم دهوز شيخ مدرسة أسرسيف والشيخ محماد وسميح شيخ المدرسة الوكاكية بأكلو وغيرهما أنه مما يشاع عند الشيوخ بسوس أن سر ما رُزقه الشيخ الماسي من قوة الحافظة أن أحد شيوخه كان قد أعد شرابا لابنه لقوة الحفظ ووضعه في ضوء النجوم ليلاً ليشربه ابنه صباحا، فقام الماسي ليلا فشربه دون علم به، فكان ذلك سبب ما رزق من الحفظ وقوة الذاكرة. وقد عُرف من أشياخ الماسي جماعة هم:
1 ـ والده: الشيخ السبعي أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن ند القاضي الأغبالي الماسي، ترجمه السوسي في المعسول ورجالات العلم العربي في سوس وذكر أنه كان من أكابر السبعيين من معاصري الشيخ أحمد أنجار وطبقته، أخذ السبع عن أستاذ على وادي تساوت في السراغنة، وشارط في مدرسة أبي البركات العبدري بحاحا مدة، ثم بمدرسة الخميس بآيت بوبكر، فمسجد أغبالو قريته، فكان يلازمه زهاء ثمانين سبعيا، وتخرج عليه نحو مائة سبعي، وهو ممن جدد هذه القراءات السبع بسوس، قال السوسي: " وكان يتقن العشر، وكان مَحظوظًا في التخريج في مدارس أبي البركات الْحَاحي، ومدرسة الْخَميس القديم بأيت بوبكر، تَخرجت به طوائف". وممن تخرج عليه أبناؤه: إبراهيم والطاهر والمدني ومحمد. وممن روى عنه القراءات السبع أيضا عبد الله الركراكي الكسيمي (ت1338 هـ) والشيخ محمد الضحاكي البعمراني الآتي في شيوخ ابنه إبراهيم برقم 4، توفي الشيخ أحمد الماسي قبل آخر القرن الثالث عشر.
وحكى لي الشيخ الحاج اسعيد أبو درار شيخ مدرسة آيت اسعيد بهشتوكة أن الشيخ المقرئ إبراهيم النومري شيخ مدرسة بنكمود بهشتوكة ـ رحمه الله ـ حدثه أن الشيخ إبراهيم الماسي كان يقرأ السبع على الشيخ محمد الضحاكي البعمراني، فلما وصل حزب "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" مرض الشيخ ثلاثة أشهر، فجعل الماسي يقرأ ما بقي له من الختمة من الرمزية، فلما أبل الشيخ من مرضه وعاد للمدرسة عرض عليه الماسي ما حفظ عن الرمزية حتى ختم القرآن، فقال له الشيخ: ما قرأت هو نفس ما قرأته على والدك لم تخرم منه حرفا، فقم فاطلب شيخا غيري فقد استوعبت ما عندي.
2 ـ الحسن البعمراني المعروف بأضرضور: أخذ عنه الماسي العشرين بمنطقة تدارت ثم بموساكنة بقبيلة آيت باعمران، كما في المعسول حيث روى السوسي عن المقرئ محمد بن العربي الهواري قوله: "لم يمر في هذه البلاد ـ يعني سوسا ـ من القراء في العشرين: العشر الكبير، والعشر الصغير، إلا اثنان: مولاي أحمد السباعي وسيدي الحسن أضارضور، الأول نزل في ( اصبويا ) بعد ما أجلاه الملك من بلده، لأنه كان سلطان الطلبة، ثم كأنه استطاب ذلك، فأراد أن يجعلها حقيقة، فنفي لذلك إلى ( سوس ) من بين قبيلته السباعية،. . . . والثاني منهما: الحسن أضارضور، تخرج في العشرين من ( جبالة ) وهو ممن أخذ عنهم سيدي إبراهيم الماسي، أخذ عنه في ( تادارت ) فـ ( موساكنة ) ولم يطل عمر الحسن أضارضور كثيراً". قال المختار السوسي تعليقا: "ولعل إبراهيم هذا هو المقيم في مدرسة ( مسفيوة ) يعلم العشر إلى أن توفي".
ووقفت على ما يؤكد ما ذكره الشيخ محمد المختار السوسي في مصورة عن رمزية للعشر الصغرى في ملك المقرئ الحاج الطاهر بن مبارك حريري العبدي العشراوي اشتراها من أهل بيت صاحبها القاضي بمحكمة آسفي المقرئ العشري السيد المامون بن العربي الغنيمي العبدي الجبلي أصلا، وهي بخط يده في مجلد كبير، وقد كتب السيد المامون في آخرها ما نصه: "وبعد فقد من الله علينا بختم هذه السلكة المباركة التي قد احتوت على فنون عديدة، وهي العشر الصغير في جمادى الأولى مضت منه عشرون يوما يوم الخميس ليلا وهي ليلة الجمعة عام 1361هـ، على يد شيخنا الأستاذ النحرير النبيل الذي له طنين يعرفه العام والخاص في فنون شتى محتومة على القراء. . . أعني بذلك سيدي صالح ابن الفقيه سيدي حمان العبدي الغياثي المراحي المكانسي دارا ومنشئا. قرأ على شيخه الأستاذ الهمام، والبطل الضرغام، الفارس في ما ذكرت أعلاه سيدي وسندي البركة القديمة العظمى أعني بذلك سيدي إبراهيم ابن الفقيه الماسي لغبالي، وهو قرأ على شيخه الفقيه الأجل سيدي الحسن البعمراني كان مشتهرا بسوس، وبها أخذ عنه شيخنا العشر الكبير والصغير".
3 ـ سيدي علي تبوكاط البعمراني: ذكر أخذه عنه الشيخ العدل إبراهيم مكرم، ولم أعثر له على ترجمة.
4 ـ الشيخ محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي، والضحاكي نسبة إلى "الضحاك" من قرى آيت باعمران، حفظ القرءان ببلده ثم التحق بمدرسة أكلو فقرأ بها على الشيخ أبي العباس أحمد بن ابراهيم البوجرفاوي المعروف بـ"أنجار" شيخ قراء سوس في زمنه (ت1286 هـ)، وعن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن الماسي والد الشيخ إبراهيم الماسي وأحد كبار القراء السبعيين الذين جددوا القراءات بسوس، قرأ القراءات بوادي تساوت من بلاد السراغنة، وشارط بمدرسة أبي البركات العبدري بحاحة، ثم لازم مسجد " أغبالو " قريته، فكان يلازمه بها زهاء ثمانين من الطلبة السبعيين، ويقال: إنه تخرج به منهم نحو مائة منهم الشيخ الضحاكي، وهو معاصر للشيخ أنجار وطبقته. وبعد جمع الشيخ الضحاكي للسبع شارط في (تيكوين) بـ (هشتوكة) سنين ثم في (تانكارفة) من ( أيت أيسمور) ومن هناك إلى (بوكارفة)، والتف عليه طلبة الروايات من جميع جهات سوس، وصار له بها ذكر لا يقل عن ذكر شيخه أنجار، وما زال ينشر هذا الفن في تلك القبائل إلى أن توفي سنة 1323هـ عن أزيد من ثمانين سنة. وقد ذكر المامون الغنيمي العبدي في إسناده الذي ختم به رمزيته في العشرين أخذ الماسي عن الضحاكي، وقال عنه: "وكان مشتهرا بسوس". وفي تقييد مخطوط للشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد أنجار السوسي حفيد الشيخ أحمد أنجار ترجم فيه لجده وذكر فيه طائفة ممن أخذوا عنه، وفيهم الشيخ المقرئ السبعي المتقن محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي.
5 ـ الشيخ المهدي بن عبد القادر الشيظمي، ورد ذكر هذا الشيخ في سند الشيخ محمد بن الشريف السحابي، يروي عنه الماسي القراءات بروايته عن الشيخ محمد الزوين عن الأوبيري كما سيأتي قريبا في أسانيد الماسي.
6 ـ الأستاذ العلامة أبي العباس أحمد بن المكي بن يرمق السماتي الجبلي، شيخ القراءات السبع في عصره، من مواليد مدشر عين بيضا بسماتة، درس بطردان وبعين حديد ببني عروس، وبدار القرمود وباورموث ببني كرفط. أخذ عن العلامة أبي علي الحسن بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز الورياجلي الأصل اللجائي المعروف بـ"كنبور" بالكاف المعقودة (ت 1283 هـ). ومن شيوخه أيضا الفقيه القاضي عبد السلام زيطان، والقاضي محمد بن العلمي الحراق. وذكر العباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام أنه أخذ عن أبي بكر عبد الله بن علي بن يوسف بن محمد الكبير بن محمد ابن ناصر الناصري (ت1281 هـ)، ووصفه بشيخ القراءات بالبلاد الجبلية. ومن تلامذة ابن يرمق المجلاوي والكرفطي احد ائمة عين حديد، اضافة الى ابنه الامين الذي مات شهيدا ضد الاستعمار الاسباني، ومن تلامذة الشيخ ابن يرمق ببني يوسف / يسف: الفقيه محمد الحراق، والفقيه محمد يبرق، وعبد السلام المرابط. ويعتبر الفقيه ابن يرمق من القراء المعارضين لمدرسة الفقيه المقرئ الوليدي العددية، توفي ابن يرمق سنة 1331 ه. من كتبه التوضيح والانكشاف في حل قانون الجمع والإرداف. وقد أخذ الشيخ الماسي عن هذا الشيخ في رحلته إلى جبالة على ما أخبرنا به الشيخ طاهر حريري رحمه الله عن شيخه علال القاسمي تلميذ الماسي وكتبه بخطه الشيخ طاهر المذكور في إجازته للشيخ عبد الله عايش والشيخ الحسن غرور كما سيأتي في أسانيد الماسي.
أسانيد الشيخ الماسي في القراءات:
1 ـ إسناده من طريق شيخه أحمد بن المكي بن يرمق:
ــ يروي الشيخ الماسي عن الشيخ أحمد بن المكي بن يرمق السماتي الجبلي عن الحسن بن محمد اللجائي المعروف بكنبور عن المعمر محمد بن إبراهيم الزروالي العصفوري عن أبي الحسن علي الحساني العمراني عن أبي زيد عبد الرحمن المنجرة بأسانيده.
ــ ويروي العصفوري أيضا عن محمد بن عبد السلام الفاسي وعن عبد السلام المشهور بالشريف الزروالي كلاهما عن أبي زيد المنجرة بأسانيده.
ــ وفي إجازة الشيخ طاهر حريري العبدي ـ رحمه الله ـ للشيخ الحسن غرور بن محمد بن قدور الحمري الريحاني العدل بمدينة الشماعية بالعشر الكبرى وللشيخ عبد الله عايش الدروي المدرس بمدرسة المعاشات بأحد الدرى من إقليم الصويرة، أن الشيخ ابن يرمق يروي العشر عن الحاج سيدي محمد التلمساني عن سيدي عبد المالك الأندلسي عن أبي الحسن القنطري بمكة عن الشيخ سراج الدين عمر اليمني الشوافي قرأ على جماعة قرأوا على الإمام العلامة محمد بن القطان خطيب المدينة المنورة وإمامها عن الشيخ زين الدين عبد الغني الهيتمي المصري وهو عن خاتمة القراء المحققين شمس الدين محمد ابن الجزري بسنده إلى الإمام أبي القاسم الشاطبي عن ابن هذيل عن ابن نجاح عن الداني بأسانيده المذكورة في كتبه.
2 ـ إسناده من طريق شيخه محمد بن عبد الله الضحاكي:
ويروي الشيخ الماسي عن محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي عن أبي العباس أحمد أنجار عن محمد بن حسين التمكدشتي، عن شيخه مبارك بن هدي السرغيني، عن محمد بن عبد السلام الفاسي، عن أبي زيد عبد الرحمن بن إدريس الحسني المنجرة، عن أبيه إدريس عن شيوخه المذكورين في فهرسته.
3 ـ إسناده من طريق شيخه محمد بن عبد القادر الشيظمي:
ورد في سند الشيخ محمد بن الشريف السحابي أن الشيخ الماسي يروي القراءات عن محمد بن عبد القادر الشيظمي عن الشيخ محمد الزوين عن الشيخ محمد التهامي الأوبيري عن الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي عن الشيخ عبد الرحمن المنجرة عن والده إدريس المنجرة عن أبي عبد الله محمد الهواري السرغيني عن عبد الرحمن ابن القاضي بأسانيده المعروفة إلى الداني وابن نفيس.
المبحث الثالث: مناقبه وثناء العلماء عليه.
يعد الشيخ الماسي من أعلام عصره في تلقين القراءات القرآنية بسوس والحوز؛ إذ يصفه مؤرخ سوس العلامة محمد المختار السوسي بقوله: " الأستاذ الكبير الطائر الصيت، الذي طال عمره في تعليم القراءات السبع في (سوس) إلى أن حط رحله في مدرسة (أيت أورير) بـ (مسفيوة) حيث أمضى بقية عمره، وهو آخر الحمزيين الكبار المتقنين للفن".
وقال عنه في أثناء حديثه عن عمه الفقيه الصوفي الحسن الماسي في كتابه من أفواه الرجال: "وابن أخيه هو المشارط اليوم بمدرسة "آيت اورير" بأحواز مراكش، ويسمى سيدي إبراهيم الحمزاوي، وقد حدثني عن أسرته أنباء تدل على أنها حافلة في الماضي بالمعارف والسيادة ودراسة القراءات السبع، ويكفيك أن سيدي إبراهيم هذا اليوم هو المنفرد في تلك الأحواز بإقراء القراءات بعد مدرسة سيدي الزوين".
ويقول عنه الشيخ الحاج إبراهيم مكرم الماسي: "وهو آخر من عرف العشرين بسوس".
ومما أخبرني به الشيخ إبراهيم الأنصاري شيخ مدرسة المنيزلة بهوارة أن الشيخ الطاهر الناصري ابن البشير الإفراني رحمه الله حدثه أن الشيخ الماسي جمعه بقراء مراكش مجلس ببيت الباشا الكلاوي بعد أن شارط الماسي بأورير فقال الكلاوي لمن حضر من قراء البلد: هل اختبرتم هذا السوسي؟ فسأله بعضهم أن يقرأ قوله تعالى: "ولا تنس نصيبك من الدنيا" بالسبع فقرأها بالعشرين، فلما فرغ من قراءته، قال للكلاوي: لم تجمعني بهؤلاء القراء في بيتك للضيافة والإكرام وإنما لتختبرني، فلْتُوفِّر لي وإياهم المأكل والمشرب مدة عام كامل أحاضرهم فيه في أحكام الألف وحدها فإن خرجت عن أحكامها إلى غيرها مدة العام تركت الذل والهوان لسوس وأهله، قال: فقام الكلاوي حتى قبَّل رأسه معتذرا ومقرا بفضل الشيخ وعلمه.
قال الشيخ مكرم: "ورحب به الكلاوي وأقره بمدرسة أيت اورير. . . واعتنى به إلى أن توفي رحمه الله".
المبحث الرابع: تصدره للإقراء بمدرسة أخليج وسببه:
تقدمت الإشارة في صدر هذا البحث إلى أن جل أخبار الشيخ الماسي تحكمه الرواية الشفوية عن مشايخ الإقراء الذين أدركوه أو أدركوا تلاميذه، ومنهم جماعة من أهل سوس وعبدة والشياظمة كتب الله لنا اللقاء بهم واستقاء هذه المعلومات عنهم، وهم عندنا عدول ثقات في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فبخصوص أوليات الشيخ الماسي في الشرط والتدريس، فقد أخبرني الشيخ إبراهيم الأنصاري شيخ مدرسة المنيزلة بضواحي اولاد تيمة بهوارة أن الشيخ الماسي كان يقرئ القراءات في بداياته بمدرسة الجمعة بمنطقة آيت عبد الله من قبيلة آيت بعمران.
ويظهر من قول السوسي في المعسول عن الماسي: "طال عمره في تعليم القراءات السبع في سوس إلى أن حط رحله في مدرسة أيت اورير" أن الشيخ الماسي مارس التدريس والإقراء مدة طويلة بسوس قبل أن يتحول عنها إلى حوز مراكش، وهو ما يؤكده قول الحاج مكرم عنه: "يشارط في المدارس القرآنية".
وسمعت من عدد من مشايخ سوس منهم الحاج حسن السحياوي وغيره أن الماسي قصد أولا بعد قدومه من جبالة مدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش ليشارط بها ويفيد بما جمعه من علم بالقراءات القرآنية بهذه المدرسة الذائعة الصيت في هذا المجال، وأن الطلبة اجتمعوا عليه وأعجبوا بمستواه وطريقته الجديدة التي أخذها في جبالة في تصحيح اللوح والتعليق عليه بذكر النظائر و"الحطيات" و"الأنصاص" و"العدد" على طريقة أهل شمال المغرب بجبالة وما إليها، فضاق به المشايخ المتولون للإقراء بالمدرسة في ذلك الوقت ذرعا ونافروه حتى اضطر للعدول عن نيته في الشرط بهذه المدرسة.
وانتقل الشيخ الماسي بعد ذلك إلى مراكش، وكان يتردد على دروس العلم بمساجدها العامرة، إلى أن هيأ الله له بذلك أسباب التصدر للإقراء بمدرسة جديدة عرفت بمدرسة "أخليج" بقرية آيت اورير من بلاد مسفيوة بحوز مراكش، ولذلك قصة طريفة تزكي ما سبق أن قررناه من أثر السلطة الراشدة في دعم العلوم إذا وجدت من العلماء المخلصين من يوجهها في هذا الاتجاه، وتتعلق القصة بمبادرة تاريخية كريمة كانت من المقرئ السبعي الفقيه الوزير مصباح بلاد دكالة ورأس أعلامهـــا في القـرن الماضي الشيخ الحافظ أبي شعيب الدكالي الصديقي (ت 1357 هـ) رحمه الله.
فقد حدثنا المقرئ الحاج الطاهر حريري عن شيخه سيدي علال القاسمي أن سبب قراءته للعشرين ومهارته فيهما، يرجع الفضل فيه بعد الله عز وجل إلى الشيخ أبي شعيب الدكالي، وذلك أنه لما تصدَّر في مسجد المواسيـن بمراكش لإلقاء دروس التفسير، كان يحضره التهامي الكلاوي باشا مراكش وأعوانه، فبينما هو يفسّر قوله تعالى: " ترهِبون به عدو الله وعدوكم " قال: قرئ " ترهبون " في السبع بالتخفيف للهاء، وقرئ خارج السبع بتشديدها، ولكن لا أدري من قرأ بها؟. ثم نظر إلى من في المجلس من طلبة مراكش وعلمائها لعله يجد من يعلم ذلك، فلم يجبه أحد، وإذا برجل في أقصى الحلقة يرفع أصبعه ويقول: قرأ بها من الرواة عن العشرة رويس عن يعقوب الحضرمي، قال: فالتفت الشيخ أبو شعيب إلى الباشا، وقال له: عليك بهذا الرجل، فقال: وما أصنع به؟ قال: تبني له مدرسة، وتجمع له حفاظ القراءات السبع من القبائل ليستكملوا عليه القراءات، فإنه إذا مات هذا لم يبق أحد يعرف ما رأينا وسمعنا. قال: وكان هذا الشيخ قارئا يحفظ العشرين الكبير والصغير وهو من أهل سوس، ويدعى سيدي إبراهيم الماسي، فأمر باشا مراكش في الحال ببناء مدرسة للشيخ إبراهيم الماسي في قيادة آيت أورير بقبيلة مسفيوة، وأمر القواد من القبائل أن يبعثوا إلى هذه المدرسة من عندهم من القراء.
ويرجح أن تولي الشيخ الماسي للإقراء بمدرسة أيت اورير التي عرفت بمدرسة أخليج كان بعد سنة 1330 هـ / 1912 م وهي السنة التي استقر بها الشيخ أبو شعيب بمراكش وولي فيها القضاء ثم وزارة العدلية.
وكان الذي تولى أمر استنفار قراء آسفي وعبدة إلى مدرسة أخليج بأمر من الباشا المذكور هو القائد الشهير الفقيه السيد عبد الكبير نجل الحاج المختار العبدي العامري البوكدراوي المعروف بالقايد ولد الحاج المختار رحمه الله، وقد نوه المقرئ الشيخ القاضي المامون العبدي في ختام رمزية كتبها بيده في العشر الصغير بهذا الفضل العظيم لهذا القائد في إحياء أمر العشرين ببلاد عبدة وما والاها وندب القراء السبعيين لاستكمال تكوينهم فيها برحاب مدرسة أورير وعند شيخها الماسي فقال: "وكان إحياء ما سطرته أعلاه على يد الفقيه الأمجد العالم النحرير الفاضل القائد السيد عبد الكبير نجل الحاج المختار العبدي العامري كان قاطنا بناحية الولي الصالح سيدي مبارك بوكدرا، متعه الله بعقله حتى يموت، جعله الله من المحبوبين ومن المقبولين".
وفي هذه الحملة المباركة أخذ القائد المذكور لهذه المدرسة من بلاد عبدة ممن قرأوا فيها بالعشرين أربعة ـ ستأتي تراجمهم في تلاميذ الماسي ـ هم:
ـــ الشيخ سيدي سعيد الجرموني.
ـــ السيد اسعيد الكرعاني.
ـــ السيد علال القاسمي.
ـــ السيد الحاج عابد السوسي.
ومما سمعته من الشيخ المقرئ العشري الطاهر حريري ـ رحمه الله ـ أن القائد ولد الحاج المختار كان يعطي لكل قارئ سبعي انتدبه لهذه المهمة خمسمائة ريال حسنية ناجزة ومثلها حين يعود.
وبهؤلاء الأربعة أحيا الله ــ عز و جل ــ هذا العلم وحفظه في مدرسة سيدي الزوين وفروعها طوال القرن الماضي، وذلك بعد أن توفي الماسي ــ رحمه الله ــ فانتقل هذا الشأن مرة أخرى، وتجددت حيويته في مدرسة سيدي الزوين، وما تزال بقية من آثاره في البلدان والمدارس المجاورة في الحوز وأحمر وعبدة ودكالة والشياظمة وغيرها إلى اليوم.
كما أحيا الله بهذا الشيخ الماسي الطرق النافعية المعروفة بالعشر الصغير بهذه الديار، فقصده الراغبون في تحصيلها، وبقيت مدرسته تؤدي رسالتها في هذا الباب مدة حياة الشيخ، وقد اعتنى الباشا الكلاوي بأمر هذه المدرسة واحتفى بالشيخ الماسي كثيرا اعترافا بفضله وعلمه. قال الشيخ محمد المختار السوسي: " وقد اعتنى به الحاج التهامي الجلاوي، فقام به خير قيام في هذه المدرسة، إلى أن مات بعد 1360هـ".
وقال الشيخ مكرم: "ورحب به الكلاوي وأقره بمدرسة أيت اورير. . . واعتنى به إلى أن توفي رحمه الله".
لكن الدراسة بهذه المدرسة لم تدم إلا مدة حياة الشيخ الماسي، لتنقطع منها بموته رحمه الله، خاصة بعد انقطاع الدعم عنها بسبب ما نال الكلاوي الذي كان يتولى رعايتها من نكبة بسبب مواقفه الموالية لسلطات الاستعمار الفرنسي والمعادية للعرش العلوي المجيد كما هو مذكور في التاريخ، ثم ما قام به القائد ابن القرشي الوريكي من بناء مدرسة أخرى بجوار مدرسة الكلاوي بأيت اورير، بقصد محو أمجادها، وما تزال مدرسة الوريكي قائمة كما يذكر أهل المنطقة، لكنها ليست فيها دراسة، كما لا تزال أيضا أطلال مدرسة أخليج موجودة إلى اليوم بآيت اورير، مذكرة بما كان لهذه المدرسة من ماض مضيء حين كانت تؤوي في رحابها ما يفوق أربعمائة قارئ كما يحكي عنها ذلك من أدرك مجدها الشامخ من أهل المنطقة وقرائها.
المبحث الخامس: تلاميذه وإشعاع مدرسته:
أتاح تصدر الشيخ الماسي بمدرسة أخليج للإقراء وتردد اصداء إمامته في فنه مع تولي الدولة ممثلة في قوادها بالمناطق المختلفة مهمة استنفار القراء للأخذ عنه والرحلة إليه ودعمها لمن يرغب في ذلك بالأعطيات السخية، أتاح كل ذلك وفرة من قصده من التلاميذ للأخذ عنه، وقد اشتهر ممن أخذوا عنه وخلفوه في نشر العشرين جماعة تصدروا بسيدي الزوين وغيرها، واتصلت الروايات القرآنية من خلالهم إلى خلق عريض من تلاميذهم يضيق الحصر بتعدادهم، لكن القصد في هذا المقام التنبيه على أسماء من وقفت على أخذه عن الماسي مع ذكر مشاهير تلاميذهم الذين قاموا بهذا الشأن بعدهم واشتهروا به في العقود المتأخرة؛ فمن مشاهير تلاميذ الآخذين عن الماسي:
1ــ الشيخ صالح ابن الفقيه حمان العبدي الغياثي المراحي المكناسي، صاحب المدرسة القرآنية بآل غياث بعبدة. وقد تقدم في مبحث شيوخ الماسي النقل عن رمزية لأحد تلاميذه وهو الشيخ المامون العبدي الآتي في الآخذين عنه، وفي آخرها التنصيص على أخذ الشيخ صالح الغياثي عن الماسي.
ومن مشاهير الآخذين عن الشيخ صالح كما تقدم المقرئ العبدي الشهير السيد المامون بن الشريف العربي العبادي البحتري الغنيمي السلهامي الجبلي أصلا، من ذرية مولاي بوسلهام ونسل مولاي عبد السلام القاضي بمدينة أسفي المتوفى بها قبل قرابة عشر سنوات، وعندي مصورة عن رمزية مكتوبة بالألوان في غاية الجودة والحسن كتبها بخطه في مجلد كبير، فرغ من نسخها في ثامن عشر ذي القعدة سنة 1360 هـ الموافق 24 نونبر 1941 م، وفيها الإشارة إلى تلقيه عن شيخه صالح الغياثي العشرين الكبير والصغير عن شيخه الماسي، حيث قال: "الحمد لله وحده، وبعد، يقول أفقر العبيد إلى ربه العبد الضعيف المامون بن العربي: قد حفظت قراءة ابن كثير في أربعة أشهر سنة 1352 وابن العلا البصري في ثمانية أشهر سنة 1353 وحمزة في ستة أشهر سنة 1355 والعشر الكبير في 18 يوما سنة 1360 والعشر الصغير في خمسة أشهر سنة 1361 وبعد انتهائي من هذه الفنون ذهبت إلى قراءة العلم". ثم بعد ذكره سنده بهذه القراءات إلى الماسي عن شيخه صالح الغياثي على نحو ما سقناه سابقا، ساق نص إجازة الشيخ صالح له، وهي: "الحمد لله وحده، وبعد، إن تلميذنا الفقيه الأستاذ الشريف السيد المامون بن الشريف السيد العربي قد حصلت له الكفاية فيما رواه عنا في قراءة العشر الكبير والعشر الصغير في خمسة أشهر، ولم يحصل لنا من الشريف المذكور تعب في قراءته؛ لأن له لُبّاً كاملا صريحا متعه الله به حتى يموت، وقد أذنت له بالقراءة في جميع ما رواه عنا وأجزت له ذلك، فالله يصلحه، وبهذا يقول عبيد ربه صالح بن حمان المكناسي".
وتحته: "قال عبيد ربه العبد الضعيف صالح بن حمان العبدي لغياثي لمراحي المكناسي: قد حفظت قراءة الثلاثة المكملين العشرة وهم اليزيد [كذا] بن القعقاع وأبو يعقوب الحضرمي والبزار سنة 1341 وقراءة العشر الصغير سنة 1343، وبعد انتهائي من القراءة وقعتُ في الإهمال مع أهل زماني، ولم يعرف لي أحد ما أنا بصدده مدة من السنين، إلى أن ورد علينا تلميذنا الشريف الأديب المذكور سنة 1360 في رمضان المعظم وذهب بي إلى القائد السيد عبد الكبير المذكور ـ يعني القائد عبد الكبير ولد الحاج المختار قائد عبدة ـ وجلسنا معه وصار يتذاكر معه على إهمال هذا الفن، وحصل للقائد المذكور الشغف الغزير وأخذ بيدنا وأذن لتلميذنا المذكور بالقراءة، وهو أول من أخذ عنا، وقرأ العشر الكبير في 18 يوما والصغير في خمسة أشهر، ولو لزمته يوما يوما لحفظه في شهر واحد رضي الله عنه". اهـ.
وفي وسط الرمزية عند انتهاء نصف القرآن ما نصه: "ورويت هذا الفن على شيخنا المحقق سيدي صالح بن حمان العبدي البحتري لغياثي لمراحي المكناسي، وهو روى عن شيخه سيدي إبراهيم بن القاضي الماسي لغياثي، وشيخه عن الضحاك كان مشتهرا بسوس، غفر الله للجميع آمين".
ويظهر من نص الإجازة أن الشيخ المامون إنما أخذ عن الشيخ صالح الغياثي القراءات الثلاثة المكملة للعشرة والعشر الصغير. أما القراءات السبع فقد أخذها الشيخ المامون عن الشيخ سعيد بن عبد الرحمن (كروم) الحضري (ت 1413 هـ /1994 م) تلميذ الشيخ عبد الرحمن بن غانم العبدي بجمعة سحيم الذي أخذها عن الشيخ الزوين، وكان أخذ المامون عن الحضري السبع عندما كان الحضري مدرسا بزاوية سيدي علي بن حميدة الركراكية بمنطقة بير اكوات بإقليم الصويرة عام 1940 م، قبل أن ينتقل الشيخ الحضري مديرا للمدرسة العتيقة "دار زمامة" بإقليم خنيفرة ويشتهر بها ما بين سنة 1963 م وسنة 1986 م. وقد عمل الشيخ المامون الغنيمي قاضيا بعين الشق بالبيضاء، ثم زاول مهنة العدالة بالحي المحمدي بالبيضاء أيضا، وانتقل أخيرا قاضيا بآسفي حيث وافته المنية حوالي سنة 1422 هـ ـ 2001 م.
2 ـ علال بن إسماعيل القاسمي الكادي المويسي العبدي: وهو من حفاظ السبع الذين انتدبهم قائد عبدة الحاج عبد الكبير ابن الحاج المختار ـ كما تقدم ـ بأمر من باشا مراكش الكلاوي للقراءة على الشيخ الماسي بالمدرسة التي بناها له. قرأ بالسبع على السيد مبارك أبانا المراسلي في مدرسته بالحنيبلات نواحي خميس أنكة بعبدة، وقرأ مبارك ابانا القراءات بالشياظمة على السيد عبد الله بن الحفيظ بمدرسته في زاوية سيدي عيسى بوخابية الرجراجي، ثم انتقل إلى مدرسة الحنيبلات فأقرأ بها إلى أن توفي، وبها قرأ عليه الشيخ علال، كما قرأ على سيدي سعيد الجرموني، قبل أن يرافقه للقراءة بالعَشْرَين الكبير والصغير على السيد إبراهيم الماسي بآيت أورير. وأخبرني الشيخ الفاضل عبد السلام كادي ــ وهو من أسرة الشيخ علال وأحد أعضاء اللجنة التي أشرفت على إنجاز المصحف المحمدي ــ أن الشيخ علال كان مشارطا عندما دعاه القائد المذكور ليلتحق بمدرسة أيت اورير بزاوية الفقيه الماكري بناحية خميس أنكة بمنطقة عبدة بعد أن حفظ السبع، وكان للفقيه الماكري تعلق به لمكانته في علم القراءات، فلما أحس رغبته في الانتقال للمشارطة في مكان آخر زوجه بنته استبقاء له بالزاوية المذكورة. وكان الشيخ علال يدرس بها العلم على فقيه يسمى الشيخ الحَيْسْني. وكان سيدي علال مشارطا بالزاوية بثمانين ريالا حسنية، حتى استدعاه القائد ولد الحاج المختار ووجهه إلى آيت اورير ليقرأ على الماسي على ما تقدم، وأعطاه خمسمائة ريال حسنية ناجزة ووعده بمثلها حين يتم القراءة.
وبعد استكمال الشيخ علال لقراءة العشرين على الشيخ الماسي تصدر للإقراء بمدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش وذلك سنة 1956 م، وطالت مدة تصدره بها ومد الله في عمره حتى صار مديرا للمدرسة وشيخ الجماعة بها وقرأ عليه الآباء والأبناء والأحفاد، وبلغ طلبته العشرات، ما بين قارئ بالسبع أو بالعشر الكبير أو الصغير، وبقي على هذه الحال حتى شاخ وعجز وجاوز المائة بكثير، وتوفي بمراكش حيث كان يسكن في حي سيدي يوسف بن علي رحمه الله، وعليـــه تخرج جماعة، من مشاهيرهم:
أ ـ الشيخ سيدي سلام الغرباوي، أصله من طنجة، كان رفيق الشيخ علال مدة طويلة، وكان يدعوه بـ"الطفل" على كبر سنه لأنه لم يكن متزوجا، وكان يساعد الشيخ علال في إقراء طلاب السبع ويقرأ هو على الشيخ علال العشرين مدة طويلة، وكان مشهورا بالإتقان للقراءات وعلم الحط والعدد والإرداف على طريقة أهل الشمال. وحين كبرت سنه أعفاه وزير الأوقاف السيد أحمد رمزي من التدريس وأبقى له الراتب اعترافا بفضله وسابقته. وحين حل الشيخ سلام مدينة مكناس، قرأ عليه بالعشرين الشيخ إبراهيم بن مبارك بن علي الهلالي المكناسي، وكان يحفظ القراءات السبع. والشيخ إبراهيم الهلالي هو والد الدكتور محمد الهلالي وزير التربية والتعليم السابق، وله مكتبة معروفة بمكناس، وهو مؤلف كتاب "التبيان لمعركة ماء أبي فكران مع وجوب اتباع رسم الإمام" وهو مطبوع. كما أخبرني الشيخ محمد الشريف السحابي أنه قرأ على الشيخ سلام بعض القرآن بالعشرين على الطريقة الجبلية إلى قوله تعالى من سورة الأحزاب: "قد يعلم الله المعوقين منكم".
ب ـ الشيخ السالك الدكالي (ت 1425 هـ)، قرأ على الشيخ علال القاسمي السبع ولازمه طويلا، واستقر بمدينة خنيفرة، وعين رئيسا للمجلس العلمي المحلي بها عند إحداث المجالس العلمية سنة 2004 م، وهو ابن خالة الشيخ عبد الحميد الدمسيري الشيظمي الآتي.
ج ـ الشيخ محمد بن العابدة الشعيبي نزيل آسفي، وإمام مسجد عبد الجبار بحي زاوية سيدي واصل، أدركته ــ رحمه الله ـ وهو شيخ ناهز الستين وقد أقعده المرض فلا يسير إلا بصعوبة، وهو ممن قرأ على الشيخ علال السبع بمدرسة سيدي الزوين، كانت وفاته حوالي سنة 2000م.
د ـ الشيخ طاهر حريري العشراوي رحمه الله، أعجوبة الحفظ والاستحضار والهمة، عرفته منذ طفولتي في سنوات الثمانينات، وألفت تردده على منزلنا، وحتى خصصنا له غرفة خاصة بها من البيت سميناها بغرفة السيد الطاهر، وكان له ـ رحمه الله ـ حب غامر في الوالد حفظه الله، حفظ السبع على الشيخ امحمد العبادي ابن اذهيبة إمام مسجد الكورس بمدينة آسفي، ثم شد الرحال إلى مدرسة سيدي الزوين حيث قرأ بها العشرين على الشيخ علال القاسمي، ثم شارط بعد ذلك في عدة مساجد بعبدة ودكالة، ثم عين مدرسا للقراءات بمدرسة سيدي الزوين مدة أربع عشرة سنة، وانتقل بعدها مدرسا للقراءات بالمدرسة العتيقة التابعة للمسجد الأعظم بمدينة آسفي، ولم يطل مقامه بها، إذ فاجأه مرض في القلب أجرى بسببه عملية جراحية لم تكلل بالنجاح ليسلم الروح إلى بارئها سنة 1430 هـ رحمه الله رحمة واسعة، وكان له رحمه الله همة عظيمة في طلب العلم وجمع الكتب والمخطوطات ولو بذل فيها مالا كثيرا على إعوازه وضيق ذات يده رحمه الله، عاش عزبا ولم يتزوج قط. أخذ عنه العشرين الشيخ عبد الله عايش الدروي شيخ مدرسة المعاشات بأحد الدرى بإقليم الصويرة وأجازه بها، والشيخ العدل بمدينة الشماعية حسن غرور عضو المجلس العلمي لمدينة اليوسفية ولم يتم عليه وأتمه على تلميذه الشيخ عبد الله عايش بعد وفاة الشيخ الطاهر حريري، وممن أخذ عنه السبع ابن عمه الشاب اللبيب الحبيب الشيخ عبد الكريم حريري، وهو على خطا الشيخ الطاهر في حفظ العشرين على الشيخ عبد الله عايش، كما أنه يتابع دراسته النظامية في المرحلة الجامعية بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية أبي شعيب الدكالي بمدينة الجديدة.
هـ ـ الشيخ بوستة المختار بن الحسين الغجدامي قرأ العشرين بمدرسة سيدي الزوين على كل من الشيخ علال القاسمي والشيخ الحاج عابد، وعين مدرسا بها سنة 1969م، وما يزال يمارس تدريس القراءات بها إلى اليوم.
و ـ الشيخ عبد الكريم بن صالح الراجي الشيظمي، من حفاظ العشرين، تلقاهما عن الشيخ علال القاسمي. وعين مدرسا بمدرسة سيدي الزوين سنة 1972م، وما يزال مدرسا بها إلى اليوم.
ز ـ الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن العاطفي، التحق بمدرسة سيدي الزوين تلميذا سنة 1964م ودرس القراءات السبع على الشيخ القاسمي، وعين أستاذا بالزاوية سنة 1980.
ح ـ الشيخ مبارك الكركوري الشيظمي، قرأ السبع والعشرين على الشيخ علال بمدرسة سيدي الزوين، وانتقل إلى مدينة الدار البيضاء إماما فمدينة تمارة بضواحي مدينة الرباط، وهو اليوم مقيم بمدينة البيضاء.
ط ـ الشيخ أحمد بن محمد جميل العبدي القارئ السبعي، شيخ مدرسة سيدي أحمد الراضي الكانوني المطاعي بجهة الوليدية على ساحل المحيط الأطلسي. قرأ بالسبع على السيد محمد بلعابدة العبدي المتقدم، وعلى السيد محمد الطيمومي وسيدي سعيد الجرموني والسيد علال القاسمي والسيد امحمد العبادي، وما زال يقرئ القراءات في مدرسته، وفاز مؤخرا بجائزة الملك محمد السادس للكتاتيب القرآنية.
ي ـ محمد بن الشريف السحابي العبيدي الزعري نزيل سلا ـ حفظه الله ـ قبيلة بني عبيد زعير ضواحي مدينة الرباط عام 1370هـ - 1949 م، حفظ القرآن ببلدته، ثم انتقل صوب قبيلة بني مستارة بناحية مدينة وزان فدرس القرآن هناك وبعض المتون، ليشد الرحال بعدها إلى مدرسة سيدي الزوين، ومكث فيها يأخذ عن علمائها وشيوخها طيلة أربع سنوات، ما بين سنة 1970م1974. فأخذ بها القراءات السبع عن الشيخ عابد السوسي والشيخ محمد ابن فنن السرغيني والشيخ السالك الدكالي، وأخذ العشرين الكبرى والصغرى على الشيخ علال القاسمي، والشيخ اليوم مدير لمدرسة ابن القاضي بسلا التابعة لجمعية الشيخ أبي شعيب بسلا، وتخرج عليه ثلة مباركة من حفاظ القراءات جمعا وإفرادا من المغرب وخارجه مد الله في عمره ونفع بعلمه.
ك ـ الشيخ عبد الحميد الدمسيري الشيظمي، أخذ القرآن أولا بمدرسة سيدي عبد الله بن الحفيظ بزاوية سيدي عيسى بوخابية بأولاد الحاج من الشياظمة على الشيخ المقرئ السبعي السيد المهدي بو الضباية الذي خلف مؤسس المدرسة الشيخ عبد الله بن أحمد بن الحفيظ التلمستي تلميذ سيدي الزوين بعد موته سنة 1335 هـ، قرأ عليه الشيخ عبد الحميد الدمسيري برواية ورش عدة ختمات، وبقراءة المكي أحزابا من القرآن، ثم انتقل إلى بلاد دكالة فقرأ السبع على الشيخ ابن زهرة بمدرســة مولاي الطاهــر القاسمي بأولاد فرج بدكالة، ثم قرأ بالعشر أيضا بمدرسة سيدي الزوين على الشيخ علال القاسمي، ليرجع إلى مدرسة سيدي عبد الله بن الحفيظ، فقرأ بها على الشيخ المهدي بو الضباية ختمة بقراءة حمزة جمعــا بينه وبين باقي السبعة، والشيخ المهدي بو الضباية ممن أدرك سيدي الزوين وقرأ عليه. ثم شارط الشيخ الدمسيري بعدها بمدرسة ابن احميدة الركراكية ببير اكوات بإقليم الصويرة مدة، لينتقل إلى مدينة آسفي حيث أسس بمعونة بعض المحسنين معهد الإمام نافع للتعليم العتيق ويتولى إدارته، وقد صار هذا المعهد تابعا لوزارة الأوقاف ويقوم بدور كبير في تخريج أفواج طلبة التعليم العتيق، وبه اليوم زهاء المائتين من الطلبة. والشيخ الدمسيري اليوم عضو بالمجلس العلمي المحلي لمدينة آسفي.
3 ـ الشيخ سيدي سعيد بن أحمد الجرموني العبدي (ت 1382 هـ) دفين مدرسة سيدي الزوين، من أكابر تلاميذ الشيخ الماسي وأوسعهم شهرة، قرأ القرآن في مسجد قريته، ثم شرع في القراءات، وحفظ السبع على القارئ المتقـن السيد الطـيب العبدي، ثم شارط في عدة مساجد، وكان يقرئ بمدرسة ولد سيدي سعيد الحفيان في نواحي سوق جمعة سحيم قبل انتقاله إلى مدرسة سيدي الزوين، وعليه قرأ بها السيد محمد بن دحّو شيخ القراءات بمدرسة المعاشات بأحد الدرى بناحية مدينة الصويرة رحمه الله، والقاضي السيد المامون الغنيمي كما أخبرني بذلك المقرئ الحاج أحمد جميل شيخ القراءات بمدرسة سيدي الراضي بنواحي الوالدية حفظه الله. والشيخ الجرموني تلا عليه لورش جدي لوالدي الشيخ عبد الله بن إبراهيم حميتو رحمه الله.
وقد يلتبس اسم هذا الشيخ باسم فقيه آخر يشترك معه في النسبة إلى الجرامنة وهي قرية بجوار ثلاثاء مبارك بوكدرة، وهو الفقيه سيدي سعيد الجرموني، ومن أبنائه الشيخ محمد خطيب مسجد ثلاثاء بوكدرة وأخوه عبد الجبار وهما من حفظة كتاب الله يقيمان بمدينة آسفي، ويشرفان على موسم قرآني سنوي يتوج بزيارة لمدرسة سيدي الزوين. ومن مشاهير تلاميذ المقرئ الشيخ سعيد الجرموني:
أ ـ محمد التلاوي الحنجري الشيظمي الحمزاوي، وقرأ أيضا قليلا على الشيخ سيدي محماد أوبراهيم الزغاري التباردي البصراوي السباعي الأصل شيخ مدرسة البير الفايض بناحية سبت الكريمات بقبيلة الشياظمة رحمه الله، وهو شيخ والدي في حفظ القرآن الكريم. وهذا التلميذ ـ أعني التلاوي ـ عمل بالتعليم حتى سن التقاعد بمدينة الدار البيضاء، وهو اليوم حي يرزق متعه الله بالعافية.
ب ـ الشيخ عمر بن الصديق القادري شيخ مدرسة زاوية ابن الأحول بحوز مراكش، قرأ على شيوخ مدرسة سيدي الزوين، ومنهم تلاميذ الماسي الأربعة: الشيخ سعيد الجرموني والشيخ علال القاسمي والشيخ عابد السوسي والشيخ ابن فنن السرغيني.
4 ـ الشيخ عابد بن محمد الكرسيفي السوسي: هو من كبار طلبة الماسي الذين أخذوا عن الماسي العشرين، تبوأ كرسي الإقراء بمدرسة سيدي الزوين سنة 1960م، وكان هذا الشيخ إمام مدرسة الشيخ الماسي ومؤذنها، وكانوا يلقبونه بـ"البقرة" لالتهامه كل ما يكتبه له الماسي في لوحه على ما يحكيه الشيوخ.
5 ـ الشيخ سعيد الكرعاني، درس على الماسي، وعاد فشارط في بلده بمنطقة الكرعان بضواحي سبت جزولة بقبيلة عبدة إلى توفي رحمه الله، وانتفع به خلق كثير من الحفاظ، وما تزال هذه المنطقة من أوفر جهات قبيلة عبدة حفاظا إلى اليوم.
6 ـ الشيخ أحمد بن عائشة الشرشمي نسبة لدوار الشراشمة بنواحي سبت جزولة، كان حافظا للعشرين أخذهما عن الشيخ الماسي، وأخبرني الشيخ عبد السلام الكادي أنه لم يشارط قط ولم يقرئ أحدا ومات في عقده السابع.
7 ـ محمد بن الحسن الماسي، ابن أخي الشيخ الماسي، ترجمه في المعسول، وذكر أخذه القرآن والعلوم بسوس عن أبيه الفقيه المقرئ السبعي الحسن بن محمد من أتباع ومريدي الشيخ علي الدرقاوي الإلغي والد صاحب المعسول، ثم التحق بالشيخ محمد المختار السوسي فلزمه بالرميلة سنين، ودرس بمدرسة ابن يوسف. وفي كتاب التعريف بقبيلة ماسة للعدل الشيخ الحاج إبراهيم مكرم: "أخذ قراءة السيد البصري عن عمه السيد إبراهيم ند القاضي بمدرسة أيت اورير بضواحي مراكش، وقام بمسجد بنكمود يساعد المدرس فيه السيد الحاج إبراهيم الماسي في تصحيح ألواح الطلبة، ولم يلبث إلا قليلا أن التحق بمدرسة أبي النعمان بأيت بريم، ومنها انتقل إلى مراكش عند السيد المختار السوسي، بيد أن أيام حوادث احتضار عهد الحماية فرقهم شغر بغر، ورجع إلى الشرط بمدرسة سيدي وكاك بأكلو، بضواحي تزنيت، إلى أن توفي عمه السيد العربي ند القاضي، فرجع إلى مسجد أغبالو ماسة إلى أن توفي ـ رحمه الله ـ أوائل شهر رمضان عام 1411 هـ".
8 ـ سيدي عبد الله بن سعيد بن محمد إيمحي الحاحي(1320 ـ 1415 هـ)، آخر المحققين إطلاقا في ميدان القراءات بحاحا، نبغ في عدة علوم، ترجمه الشيخ العلامة الفقيه إبراهيم إذابراهيم التامري في كتابه المتعة والراحة، وقال في ترجمته: "وجال في حوز مراكش سعيا وراء فن القراءات، فكان في مدرسة أخليج يتلقى عن الحمزاوي الشهير سيدي إبراهيم الماسي".
9 ـ محمد ابن فَنَن السرغيني: درس بمدرسة سيدي الزوين مدة طويلة، وممن أخذ عنه الشيخ محمد بن الشريف السحابي العبيدي الزعري نزيل سلا أطال الله بقاءه.
10 ـ الفقيه الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد الومهالي، أخذ عن العلامة سيدي الحاج عابد بن عبد الله البوشواري، عالم حسن فقيه فرضي، يقضي أيضا يفتي كأبيه، وقد مارس المشارطة كغالب أهله، فلم يعهد منه كأسلافه جولان في التعليم، ولد يوم 13 محرم عام 1298 هـ، وتوفي يوم 11 ربيع الثاني عام 1349هـ. قال السوسي: "وقد كان غاب عن أهله في سفرة إلى مسفيوة بحوز (مراكش) نازلاً عند الأستاذ سيدي إبراهيم الماسي معلم مدرسة (أيت أوورير) الشهير، فهناك لحقه أجله".
11 ـ الشيخ الحاج الحسين البرحيلي: لم يبق على قيد الحياة اليوم من تلاميذ الشيخ الماسي غيره، درس على الماسي وهو صغير في عمر الثانية عشرة، وهو اليوم شيخ مسن طاعن في السن، وما زال يسكن في بيت المدرسة التي أمضى عمره مدرسا بها بأولاد برحيل بضواحي تارودانت، وقد كان أولا يدرس فيها على الشيخ العدل عطفاي والد الأستاذ والمقرئ السبعي المعروف بمدينة الدار البيضاء، ثم خلفه فيها، والشيخ عطفاي ما زال على قيد الحياة بحي الباطوار بمدينة أكادير.
المبحث السادس: وفاته وآثاره.
أدركت المنية الشيخ الماسي وهو يدرس بمدرسة أخليج، ويذكر السوسي أن ذلك كان بعد سنة 1360 ه ـ، وفي التعريف بقبيلة ماسة أنه: "توفي في أواخر الستينات من القرن الرابع عشر الهجري، ودفن هناك".
أما آثاره فأعظمها ما خلف وراءه من تلامذة حملوا بعده مشاعل القراءات العشر في مدارس مختلفة من جهات الجنوب المغربي، خاصة في مدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش.
كما أن له بعض الرمزيات في العشرين الكبير والصغير بخط يده رحمه الله عند بعض القراء، وخطه متوسط إلى الرداءة أقرب، وعند الشيخ محمد أيت سي علي المعروف بأرسموك شيخ مدرسة بنكمود بهشتوكة بعضها.
خاتمة:
وبعد، فهذه محاولة متواضعة للتعريف بأحد أعلام القرآن الكريم وقراءاته ببلدنا الحبيب، إحياء لذكراه في هذا المحفل العلمي المجيد المخصص لأهل القرآن، ووفاء بما كان له من جهود عظيمة بقي بها حبل هذه العلوم متصلا إلى اليوم بهذه الربوع، وإني أرى أن أكبر توصية أختم بها هذا البحث التنبيه إلى أن من الواجب الجسيم الذي يجب أن تضطلع به النخبة العالمة في بلدنا بمؤسساتها وهيآتها العاملة في ميادين البحث العلمي إنقاذ سير هؤلاء القراء وأخبارهم من الضياع والنسيان بتقادم زمانهم وانقراض أهل جيلهم والآخذين عنهم. وقد كان الشيخ محمد المختار السوسي قد أحس بهذا الواجب فتمنى أن لو سمح له الوقت أن يقوم به في حق أحد كبار قراء قطره سوس وحق تلامذته، وهو الشيخ أحمد أنجار البعمراني، فقال عند ترجمته في رجالات العلم العربي بسوس ص 227: " من أكابر القراء من أواسط القرن الماضي، وله شُهرة لا تزال تطن بها الأندية، ربض في مدرسة أكلو كثيرًا، فأصدر نَحو المائة من القراء الكبار، ولو كانت العناية متوفرة لجمع أخباره وأخبارهم لكانوا أحق بأن يفردوا بتأليف". ولعلنا بعملنا المتواضع هذا نكون قد سرنا خطوة في هذا الدرب ليقتدي بنا فيها غيرنا بحول الله وتوفيقه.
ولا شك أن بعث سير هؤلاء الأماجد في مثل هذه المجامع العلمية المنيفة ما هو إلا جزء يسير مما يجب لهم علينا من واجب البرور والعرفان، والشكر والامتنان، فقدس الله مضاجعهم، وطيب مراقدهم، ورفع درجاتهم في عليا الجنان، وجمعنا بهم في دار الرضوان، بشفاعة القرآن، إنه هو الكريم المنان.
بسم1
الشيخ المقرئ العشري إبراهيم ابن القاضي الماسي السوسي شيخ القراءات بمدرسة "آيت اورير" بـ"مسفيوة"
وأثر مدرسته في إحياء القراءات العشر بحوز مراكش وإشعاعها بالجنوب المغربي.
بقلم: د/ حسن حميتو
تقديم:الشيخ المقرئ العشري إبراهيم ابن القاضي الماسي السوسي شيخ القراءات بمدرسة "آيت اورير" بـ"مسفيوة"
وأثر مدرسته في إحياء القراءات العشر بحوز مراكش وإشعاعها بالجنوب المغربي.
بقلم: د/ حسن حميتو
للعلوم كما للفنون والمعارف عبر التاريخ فتراتٌ من المد والقوة، وأخرى من الانحسار والضعف، هي نتيجة لما يتهيأ لها في مراحل تاريخها المختلفة من ظروف مواتية أو معاكسة لازدهارها ونمائها، وعواملَ تسعى بها إلى النهوض تارة أو إلى الركود أخرى. وإن أهم تلك العوامل الضامنة لنهضة العلوم ونَفاق سوقها تضافر همم رجالات السيف والقلم من علماء وحكام على خدمة العلم وتشجيع طلابه ودعم العلماء فيما هم بسبيله من نشر العلوم وإحياء مواتها وتجديد شبابها.
وكم نقف في تاريخ المغرب على علوم تجددت العناية بها فراجت سوقها بعد كساد واشتدت الرغبة فيها بعد طول إهمال حين تداعت إلى الاهتمام بها والاحتفاء بمنتحليها همم النخبة العالمة والسلطة الحاكمة. ومن نماذج ذلك الشاهدة بصدقه تلك الحظوة الكبيرة التي نالها علم القراءات وفروعه الدائرة في فلكه في عهد دولة بني مرين وبخاصة في عهد يعسوبها السلطان أبي الحسن علي بن عثمان المريني وابنه أبي عنان فارس بن علي، اللذين كانا من المشاركين في هذه العلوم، إذ كان السلطان أبو الحسن من حفاظ السبع، وكان يكتب المصاحف الشريفة ويضبطها بيده ليوقفها على أحد المساجد الثلاثة المقدسة بمكة والمدينة والقدس، وكان يقرب إليه القراء والمجودين، فكان في بلاطه وبلاط ابنه أبي عنان كبار قراء العصر كالإمام أبي عبد الله الصفار والإمام ابن مرزوق والإمام أبي العباس الزواوي صناجة ذلك العصر والمقرئ الخاص للسلطان أبي الحسن وغيرهم، فلا غرو أن يكون هذا العصر عصر نهضة قرائية أعادت لفنون القراءة والأداء عنفوان شبابها وأبرزت كبار أئمة هذا الشأن كالإمام ابن القصاب والخراز وابن بري وأبي الحسن القرطبي وأبي زيد الجادري والقيسي وأبي وكيل الفخار والشباني والتنسي وهلم جرا.
يقول الدكتور عبد الهادي حميتو منوها بعناية السلطان أبي الحسن بالقراء ومبرزا انعكاس هذه العناية الرسمية على الساحة العلمية والإقرائية خاصة بحاضرة فاس: " ولقد كان للقراء والقراءات الحظ الأوفى من هذه العناية، فكانت المدينة ـ يعني فاسا ـ بسببها مقصدا لكثير من الراغبين في الإفادة منها تعلما وتعليما، ولقد انعكست هذه العناية من لدن الدولة في أكثر من مظهر ومجال، فكان من ذلك تقريب علماء القراءات وانتدابهم رسميا للتأديب والاقراء في المدارس والجوامع العامة والخاصة، واستعمالهم في الوظائف الرفيعة كالكتابة العليا والقضاء والإمامة أو دمجهم ضمن الحاشية وجلساء السلطان. . . وكان من مظاهر هذه العناية اتخاذ ملوك هذه الدولة مشايخ من أعلام القراء ليأخذوا عنهم هذه العلوم. وسيأتي لنا في تراجم طائفة من القراء كأبي الحسن بن بري وأبي العباس الزواوي وأبي عبد الله الصفار كيف كانوا يعارضون ملوك الدولة بالقراءات. وهكذا استقطبت عاصمة الدولة أكابر العلماء والقراء، وأسندت إليهم المناصب وأجريت عليهم الرواتب فاطمأن بهم المقام، وتنامى بسببهم جانب البحث والنظم والتأليف، وعمرت المساجد المختلفة بالمدرسين لمختلف الفنون، وكانت مجالس الخلفاء أيضا حافلة بما كان يتطارحه العلماء فيها من مباحث وعلوم".
إن هذا الازدهار لعلوم القراءة رواية ودراية وانتعاش العناية بها عموما أو بأحد فروعها، يتجدد كلما تحقق شرطه الذي ألمعنا إليه، والمتمثل في الدعم الرسمي لأهل هذه العلوم والاحتفاء بهم والقيام بمعاهدهم ونفقات طلبتهم، وتكريم المتفوقين منهم، واستعمالهم في الوظائف اللائقة بهم، مما يشجع الشيوخ والطلبة على المضي في هذا الدرب الشاق والطويل.
وهو ما كان يحرص عليه سلاطين الدولة العلوية الشريفة، فكثر في عهدها القراء وازدهر الإقراء، وممن عرف عنه ذلك واشتهر به السلطان العالم محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله.
ومقصدنا في هذا البحث التعريف بأحد أعلام الإقراء المتأخرين الذين حظوا بدعم السلطة الراشدة لملوك هذه الدولة العلوية الشريفة، فأحيا الله على يديه رسوم العشرين الصغرى والكبرى بربوع أحواز مراكش وما إليها من جنوب المغرب بعد أن كاد نجمها يؤذن بالأفول.
إنه الشيخ المقرئ العشري إبراهيم بن أحمد ابن القاضي الأغبالي الماسي السوسي رحمه الله.
وسأتناول التعريف به في خمسة مباحث كالتالي:
المبحث الأول: في ذكر ترجمته وأسرته وبداياته.
المبحث الثاني: في ذكر مشيخته وأسانيده.
المبحث الثالث: في بعض مناقبه وثناء العلماء عليه.
المبحث الرابع: في تصدره للإقراء بمدرسة أخليج وسبب ذلك.
المبحث الخامس: في تلاميذه وإشعاع مدرسته.
المبحث السادس: في وفاته وآثاره.
الخاتمة: وفيها خلاصات وتوصيات.
والله ولي التوفيق.
المبحث الأول: في ترجمة الماسي وذكر أسرته وبداياته.
قبل الشروع في ترجمة الشيخ إبراهيم الماسي لا بد من الإشارة إلى أن الجانب الأعظم من أخبار هذا الشيخ والمعلومات عنه ـ إذا ما استثنينا ما سطره الشيخ محمد المختار السوسي في معسوله والشيخ العدل إبراهيم مكرم في تعريفه بماسة ـ مبناه على روايات شفهية يتناقلها الشيوخ والقراء فيما بينهم رواية عن تلاميذ الماسي أو من عاصره، وذلك لقرب العهد بزمنه وللتفريط الذي يوصف به المغاربة في تدوين أخبار شيوخ العلم فيهم حتى أتى على كثير منها الإهمال والنسيان وتقادم العهد، ولذلك اعتمدت في كثير من جوانب هذا البحث على ما سمعته من روايات شفوية من بعض مشايخ الإقراء الأحياء من تلاميذ تلاميذ الماسي أو ممن تلقى عنهم ذلك بالسماع.
ــ اسمه ونسبه ونسبته:
هو الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله ند القاضي الأغبالي الماسي السوسي، يعرف بابن الفقيه.
والأغبالي أو "الأغبالويي" ـ كما يعبر صاحب المعسول ـ نسبة لمدشر أو قرية "أغبالو" الواقعة على ضفة وادي ماسة، وذكر الشيخ محمد المختار السوسي أن لهذه القرية ذكرا في كتاب الاستبصار أواخر القرن السادس الهجري في حدود سنة 590 هـ.
وقد زرتها فرأيت بها مسجدا عتيقا، ويغلب عليها اليوم البناء الحديث الذي يظهر منه مبلغ الثراء الذي يتمتع به كثير من قاطني ماسة بسبب ما جنوه من أموال وفيرة من الهجرة التي كانت لهم في عقد الستينات نحو الديار الفرنسية وغيرها من بلاد أوربا للعمل، وما صاروا يتقاضونه بعد عودتهم من مبالغ مهمة من معاشات التقاعد، وهي تابعة اليوم إداريا لجماعة سيدي وساي دائرة ماسة.
وعرفت هذه القرية في تاريخ سوس بمدرستها العلمية "الاغبالوية" التي اشتهرت ـ كما يذكر عنها السوسي ـ برفع راية القراءات منذ أجيال، وعرف بها في سوس العالمة فقال: " نسبة إلى قرية: أغْبَالو، وهذه الأسرة تقول: إنَّها عمرية النسب من بني عدي، وقد زخرت الأسرة بالعلماء والقراء العشريين الكبار، ومن بينهم سيدي مُحمد بن الحسن، وسيدي إبراهيم أستاذ آيت أوْرير بِمسفيوة أخيرا".
وقرية أغبالو إلى زمن قريب أغنى قرى ماسة بحفظة كتاب الله بالروايات الحرفية كما نبه على ذلك العدل الحاج إبراهيم مكرم في كتابه عن ماسة، حيث عرف بطائفة منهم ثم قال: "ومن أغبالوا جماعة من القراء يعدون بالعشرات، وبسردهم يضيق بنا المقام".
و"الماسي": نسبة لبلدة ماسة الواقعة جنوب مدينة أكادير على شاطئ المحيط الأطلسي وتبعد عنها بمسافة 40 كلم. وتعرف في تاريخ الفتح الإسلامي برباطها الشهير ومسجدها المنسوب لعقبة بن نافع الفهري فاتح بلاد المغرب والممهد للإسلام فيه. ولماسة مكانة خاصة لدى الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، يدل على ذلك وفرة ظهائر التوقير والإعفاء من الكلف والمطالب المخزنية التي بأيدي أهل رباط ماسة، نشر منها الشيخ محمد المختار السوسي ما يربو على العشرين وثيقة في كتابه في خلال جزولة.
والسوسي: نسبة لقطر سوس الأقصا المعروف الذي نبغ منه جماعة في مختلف العلوم والفنون، وخاصة في علم القراءات الذي برَّز فيه صاحبنا الماسي، كما أشاد بذلك السوسي متأسفا على ما آل إليه الحال لعهده فقال في ترجمة الشيخ عبد الله بن أحمد البلفاعي الهشتوكي الحمزاوي من المعسول: " ثم لم ينشب هذا الفن أن اندثر بالكلية، حتى ليعد على الأصابع الآن من لا يزالون يتقنونه، بعدما كان مزدهرًا في (سوس) حتى إن (سوس) صارت تضاهي (جبالة) فيه، ثم طوى بساط الجميع بما فيه الآن بعد 1370ه" ـ وقال في موضع آخر بعد ذكر طائفة من السوسيين حفاظ العشر والسبع: " كانت القراءات السبع، بل العشر، بل العشران مزدهرة بسوس دائماً، ولها مدارس خاصة في ( هشتوكة ) و ( رأس الوادي ) و ( بعمرانة ) و ( ماسة ) وغيرها، ومضى أعلام كبار صالحون من صفوف حملتها، كمحمد بن إبراهيم أعجلي، وتلميذه الحاج محمد الركراكي وأحمد أنجار، والضحاكي وعلي التناني، وعلي الخياطي، ومحمد بن العربي الهواري، وعبد الله خرباش، وأمثالهم، ومن المتأخرين منهم الحاج محمد التيزنيتي، وعبد الله الركراكي، وإبراهيم الماسي، وكان هؤلاء وإزاءهم آخرون يبثون هذه القراءات المختلفة، إلى أن تبدلت الأحوال، وأفل نجم الاعتناء بغير حرف ورش، فلم يبق الآن من أعلام الفن إلا المترجم مع ثلة قليلة جدا يعدون على الأصابع، هم هامة اليوم أو غدا، ثم كنا نتعلل بأن في بقاء حرف ورش خيرا كثيراً، إلا أننا اليوم نشاهده أيضاً يندثر بسرعة، حتى إننا لنرى جيلا ينشأ بيننا يكاد يجهل كل شيء، فلئن بقي الحال هكذا - ونخاف أن يبقى كذلك - فإن سوس ستكون خاوية على عروشها، فيطوى فيها القرآن طيا، لا قدر الله، وما يربح بعد خسران القرآن؟ ".
ويعرف إبراهيم الماسي بابن القاضي أو "ند القاضي"، قال الشيخ محمد المختار السوسي: "وتسمى الأسرة "آل القاضي"، ولا ندري من هو القاضي من رجالها".
وحكى لي الشيخ الطاهر حريري ـ رحمه الله ـ أن الشيخ الماسي كان أعور إحدى العينين نحيف الجسم، وسمعت من فقهاء سوس أن الشيخ كان له في صغره ولع بالضرب على العود والرباب.
وذكر الشيخ العدل الحاج إبراهيم مكرم أن الشيخ الماسي لم يتزوج قط، وهو خلاف ما في المعسول؛ إذ ذكر الشيخ محمد المختار السوسي في ترجمة الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر البوشواري ما يفيد إصهار الشيخ الماسي إليه، حيث قال في ترجمته: " هو ممن يحفظون حرف المكي، وعمي أخيراً، وكان يُدَرِّس في كُتّاب بدرب الحلفاوي بمراكش، وهو الذي تزوج بنته سيدي إبراهيم الماسي الأستاذ الشهير في مدرسة (أيت اورير)".
ــ أسرته:
أما أسرة الشيخ الماسي فيرتفع نسبها إلى الرجل الصالح أحمد بن عمرو دفين "أمزو" بهوارة، وبعضهم يجعلهم عدويين من نسل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن لا تعرف لذلك صحة ولا ثبوت.
وهذه الأسرة المعروفة بآل القاضي أسرة علم وقرآن وقراءات عرفت بذلك في سوس، قال السوسي: "ثم إن هذه الأسرة من الأسر العالمة القارئة التي تسلسل فيها العلم والقراءات". وقال عنها وهو يتحدث عن الفقيه الصوفي الحسن الماسي في كتابه من أفواه الرجال: "وقد حدثني عن أسرته أنباء تدل على أنها حافلة في الماضي بالمعارف والسيادة ودراسة القراءات السبع، ويكفيك أن سيدي إبراهيم ـ يعني الشيخ إبراهيم الماسي ـ هذا اليوم هو المنفرد في تلك الأحواز ـ يعني أحواز مراكش ـ بإقراء القراءات بعد مدرسة سيدي الزوين".
وعرف السوسي بطائفة من أهل القرآن والعلم في هذه الأسرة، يوضحهم التشجير التالي مع التعريف بكل واحد منهم:
عبد الله
عبد الله
عبد الله
ــ تمييز المترجم عن بعض مشاركيه في النسبة لماسة:
وقد يلتبس اسم مترجمنا بشخصين آخرين كلاهما يعرف بإبراهيم الماسي:
الأول: الفقيه إبراهيم بن محمد الماسي نزيل طنجة، من أهل القرن الثاني عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي، له تأليف عن تاريخ سوس وأخبار بلده ماسة ألفه باللهجة الأمازيغية سنة 1834 م حين كان مقيما بطنجة، بطلب من أحد أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي المقيم بطنجة يسمى ويليام براون هودسون، ثم ترجمه إلى اللغة العربية، ليترجمه هودسون إلى الإنجليزية اعتمادا على النص العربي. وقد ذكر في تأليفه أنه حفظ القرآن في مدرسة ماسة العتيقة عند الفقيه سيدي محمد بن محمد الماسي الذي لازمه مدة 12 سنة ونصف، ثم انتقل إلى قبيلة تازروالت لطلب العلم في المدرسة العتيقة لسيدي أحمد بن موسى حيث درس على الشيخ محمد أعجلي (ت 1271 هـ)، ثم انتقل للدراسة بأكلو عند الفقيه محمد بن حساين الجراري لدراسة العلم.
والثاني: الشيخ الحاج إبراهيم بن محمد بن الحسين ند الفقيه الحامدي الماسي الزاوي الملقب بـ"إد الفقيه" نسبة إلى أسرة "إد الفقيه" المعروفة بدوار الزاويت بماسة حيث نشأ وترعرع. ولادته سنة 1311 هـ / 1889 م، وتلقى تعليمه الأولي لدى والده بمسجد مدشر "تكمي لجديد" بماسة، ، وتابع حفظ القرآن بمسجد "الزاويت" لدى الشيخ ند سبعين الماسي وغيره، ثم التحق بمسجد "أيت إلياس" بماسة حيث تلقى قراءة المكي لدى الشيخ أحمد أعلي، وانتقل لأخذ القراءات إلى مدرسة سيدي همو الحسن بالاخصاص لدى الشيخ محمد الحسن الأغبالي الحمزاوي الماسي سنة 1324 هـ، كما درس القراءات على الشيخ عبلا أركراك بمدرسة علال بهشتوكة وعلى تلميذه الشيخ مبارك املك بآيت ميلك، ثم رحل سنة 1333هـ في طلب العلم إلى بلاد أولاد أبي السباع للدراسة على العلامة القاضي الشيخ محمد بن عبد الكريم الضُّو السباعي بمدرسة أولاد مومنة، وبقي عنده أربع سنوات يدرس عليه العلم قبل أن يشارطه الشيخ الضو في مسجده لتعليم القرآن والمتون ستة أعوام أخرى، ليرجع بعدها سنة 1343 هـ فيشارط في عدة مساجد من بلدته ماسة، وحج سنة 1352 هـ رفقة الشيخ علي الاسيكي، ولم يلبث أن طلبه سكان قرية بنكمود بهشتوكة ليشارط عندهم مدة ثلاث سنوات، وهناك لمع نجمه وتقاطر عليه الطلبة، ونظرا لتكاثر الطلبة وضيق مدرسة بنكمود انتقل بطلب من شيخه علي الاسيكي إلى مدرسة سيدي أمزال بأيت إيلوكان، وهناك تخرج عليه أفواج من الطلبة وقراء الروايات، أشهرهم الحاج الشيخ إبراهيم النومري البصراوي شيخ مدرسة بنكمود والحاج محمد الرسموكي البصراوي شيخ مدرسة أزرو مسكينة والحاج الحسن مهذب الماسي وصهره السيد بوسلام وغيرهم، وتزوج بنت الحاج الحسين الإفراني، وفقد كريمتيه في آخر عمره، فترك التدريس ولزم بيته بزاوية ماسة إلى أن وافاه الأجل سنة 1393 هـ ـ 1973 م.
ويميز الشيوخ السوسيون بين هذا الشيخ وبين مترجمنا باللقب، فيلقبون هذا الشيخ "ند الفقيه" أو "إد الفقيه"، ويلقبون مترجمنا بلقب "إويس الفقيه" أو "بلفقيه" (ابن الفقيه).
المبحث الثاني: رجال مشيخته وأسانيده في القراءة.
ما كان للشيخ الماسي أن يصل ما وصل من الشفوف والإتقان في علم القراءات القرآنية لولا رحلته إلى مناطق مختلفة من المغرب في طلب هذا الشأن، وتلقيه تلك المعارف الشريفة عن ثلة من المتصدرين لإقرائها داخل جهته سوس وخارجها. وذكر لي بعض فقهاء سوس كالشيخ إبراهيم دهوز شيخ مدرسة أسرسيف والشيخ محماد وسميح شيخ المدرسة الوكاكية بأكلو وغيرهما أنه مما يشاع عند الشيوخ بسوس أن سر ما رُزقه الشيخ الماسي من قوة الحافظة أن أحد شيوخه كان قد أعد شرابا لابنه لقوة الحفظ ووضعه في ضوء النجوم ليلاً ليشربه ابنه صباحا، فقام الماسي ليلا فشربه دون علم به، فكان ذلك سبب ما رزق من الحفظ وقوة الذاكرة. وقد عُرف من أشياخ الماسي جماعة هم:
1 ـ والده: الشيخ السبعي أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن ند القاضي الأغبالي الماسي، ترجمه السوسي في المعسول ورجالات العلم العربي في سوس وذكر أنه كان من أكابر السبعيين من معاصري الشيخ أحمد أنجار وطبقته، أخذ السبع عن أستاذ على وادي تساوت في السراغنة، وشارط في مدرسة أبي البركات العبدري بحاحا مدة، ثم بمدرسة الخميس بآيت بوبكر، فمسجد أغبالو قريته، فكان يلازمه زهاء ثمانين سبعيا، وتخرج عليه نحو مائة سبعي، وهو ممن جدد هذه القراءات السبع بسوس، قال السوسي: " وكان يتقن العشر، وكان مَحظوظًا في التخريج في مدارس أبي البركات الْحَاحي، ومدرسة الْخَميس القديم بأيت بوبكر، تَخرجت به طوائف". وممن تخرج عليه أبناؤه: إبراهيم والطاهر والمدني ومحمد. وممن روى عنه القراءات السبع أيضا عبد الله الركراكي الكسيمي (ت1338 هـ) والشيخ محمد الضحاكي البعمراني الآتي في شيوخ ابنه إبراهيم برقم 4، توفي الشيخ أحمد الماسي قبل آخر القرن الثالث عشر.
وحكى لي الشيخ الحاج اسعيد أبو درار شيخ مدرسة آيت اسعيد بهشتوكة أن الشيخ المقرئ إبراهيم النومري شيخ مدرسة بنكمود بهشتوكة ـ رحمه الله ـ حدثه أن الشيخ إبراهيم الماسي كان يقرأ السبع على الشيخ محمد الضحاكي البعمراني، فلما وصل حزب "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" مرض الشيخ ثلاثة أشهر، فجعل الماسي يقرأ ما بقي له من الختمة من الرمزية، فلما أبل الشيخ من مرضه وعاد للمدرسة عرض عليه الماسي ما حفظ عن الرمزية حتى ختم القرآن، فقال له الشيخ: ما قرأت هو نفس ما قرأته على والدك لم تخرم منه حرفا، فقم فاطلب شيخا غيري فقد استوعبت ما عندي.
2 ـ الحسن البعمراني المعروف بأضرضور: أخذ عنه الماسي العشرين بمنطقة تدارت ثم بموساكنة بقبيلة آيت باعمران، كما في المعسول حيث روى السوسي عن المقرئ محمد بن العربي الهواري قوله: "لم يمر في هذه البلاد ـ يعني سوسا ـ من القراء في العشرين: العشر الكبير، والعشر الصغير، إلا اثنان: مولاي أحمد السباعي وسيدي الحسن أضارضور، الأول نزل في ( اصبويا ) بعد ما أجلاه الملك من بلده، لأنه كان سلطان الطلبة، ثم كأنه استطاب ذلك، فأراد أن يجعلها حقيقة، فنفي لذلك إلى ( سوس ) من بين قبيلته السباعية،. . . . والثاني منهما: الحسن أضارضور، تخرج في العشرين من ( جبالة ) وهو ممن أخذ عنهم سيدي إبراهيم الماسي، أخذ عنه في ( تادارت ) فـ ( موساكنة ) ولم يطل عمر الحسن أضارضور كثيراً". قال المختار السوسي تعليقا: "ولعل إبراهيم هذا هو المقيم في مدرسة ( مسفيوة ) يعلم العشر إلى أن توفي".
ووقفت على ما يؤكد ما ذكره الشيخ محمد المختار السوسي في مصورة عن رمزية للعشر الصغرى في ملك المقرئ الحاج الطاهر بن مبارك حريري العبدي العشراوي اشتراها من أهل بيت صاحبها القاضي بمحكمة آسفي المقرئ العشري السيد المامون بن العربي الغنيمي العبدي الجبلي أصلا، وهي بخط يده في مجلد كبير، وقد كتب السيد المامون في آخرها ما نصه: "وبعد فقد من الله علينا بختم هذه السلكة المباركة التي قد احتوت على فنون عديدة، وهي العشر الصغير في جمادى الأولى مضت منه عشرون يوما يوم الخميس ليلا وهي ليلة الجمعة عام 1361هـ، على يد شيخنا الأستاذ النحرير النبيل الذي له طنين يعرفه العام والخاص في فنون شتى محتومة على القراء. . . أعني بذلك سيدي صالح ابن الفقيه سيدي حمان العبدي الغياثي المراحي المكانسي دارا ومنشئا. قرأ على شيخه الأستاذ الهمام، والبطل الضرغام، الفارس في ما ذكرت أعلاه سيدي وسندي البركة القديمة العظمى أعني بذلك سيدي إبراهيم ابن الفقيه الماسي لغبالي، وهو قرأ على شيخه الفقيه الأجل سيدي الحسن البعمراني كان مشتهرا بسوس، وبها أخذ عنه شيخنا العشر الكبير والصغير".
3 ـ سيدي علي تبوكاط البعمراني: ذكر أخذه عنه الشيخ العدل إبراهيم مكرم، ولم أعثر له على ترجمة.
4 ـ الشيخ محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي، والضحاكي نسبة إلى "الضحاك" من قرى آيت باعمران، حفظ القرءان ببلده ثم التحق بمدرسة أكلو فقرأ بها على الشيخ أبي العباس أحمد بن ابراهيم البوجرفاوي المعروف بـ"أنجار" شيخ قراء سوس في زمنه (ت1286 هـ)، وعن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن الماسي والد الشيخ إبراهيم الماسي وأحد كبار القراء السبعيين الذين جددوا القراءات بسوس، قرأ القراءات بوادي تساوت من بلاد السراغنة، وشارط بمدرسة أبي البركات العبدري بحاحة، ثم لازم مسجد " أغبالو " قريته، فكان يلازمه بها زهاء ثمانين من الطلبة السبعيين، ويقال: إنه تخرج به منهم نحو مائة منهم الشيخ الضحاكي، وهو معاصر للشيخ أنجار وطبقته. وبعد جمع الشيخ الضحاكي للسبع شارط في (تيكوين) بـ (هشتوكة) سنين ثم في (تانكارفة) من ( أيت أيسمور) ومن هناك إلى (بوكارفة)، والتف عليه طلبة الروايات من جميع جهات سوس، وصار له بها ذكر لا يقل عن ذكر شيخه أنجار، وما زال ينشر هذا الفن في تلك القبائل إلى أن توفي سنة 1323هـ عن أزيد من ثمانين سنة. وقد ذكر المامون الغنيمي العبدي في إسناده الذي ختم به رمزيته في العشرين أخذ الماسي عن الضحاكي، وقال عنه: "وكان مشتهرا بسوس". وفي تقييد مخطوط للشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد أنجار السوسي حفيد الشيخ أحمد أنجار ترجم فيه لجده وذكر فيه طائفة ممن أخذوا عنه، وفيهم الشيخ المقرئ السبعي المتقن محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي.
5 ـ الشيخ المهدي بن عبد القادر الشيظمي، ورد ذكر هذا الشيخ في سند الشيخ محمد بن الشريف السحابي، يروي عنه الماسي القراءات بروايته عن الشيخ محمد الزوين عن الأوبيري كما سيأتي قريبا في أسانيد الماسي.
6 ـ الأستاذ العلامة أبي العباس أحمد بن المكي بن يرمق السماتي الجبلي، شيخ القراءات السبع في عصره، من مواليد مدشر عين بيضا بسماتة، درس بطردان وبعين حديد ببني عروس، وبدار القرمود وباورموث ببني كرفط. أخذ عن العلامة أبي علي الحسن بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز الورياجلي الأصل اللجائي المعروف بـ"كنبور" بالكاف المعقودة (ت 1283 هـ). ومن شيوخه أيضا الفقيه القاضي عبد السلام زيطان، والقاضي محمد بن العلمي الحراق. وذكر العباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام أنه أخذ عن أبي بكر عبد الله بن علي بن يوسف بن محمد الكبير بن محمد ابن ناصر الناصري (ت1281 هـ)، ووصفه بشيخ القراءات بالبلاد الجبلية. ومن تلامذة ابن يرمق المجلاوي والكرفطي احد ائمة عين حديد، اضافة الى ابنه الامين الذي مات شهيدا ضد الاستعمار الاسباني، ومن تلامذة الشيخ ابن يرمق ببني يوسف / يسف: الفقيه محمد الحراق، والفقيه محمد يبرق، وعبد السلام المرابط. ويعتبر الفقيه ابن يرمق من القراء المعارضين لمدرسة الفقيه المقرئ الوليدي العددية، توفي ابن يرمق سنة 1331 ه. من كتبه التوضيح والانكشاف في حل قانون الجمع والإرداف. وقد أخذ الشيخ الماسي عن هذا الشيخ في رحلته إلى جبالة على ما أخبرنا به الشيخ طاهر حريري رحمه الله عن شيخه علال القاسمي تلميذ الماسي وكتبه بخطه الشيخ طاهر المذكور في إجازته للشيخ عبد الله عايش والشيخ الحسن غرور كما سيأتي في أسانيد الماسي.
أسانيد الشيخ الماسي في القراءات:
1 ـ إسناده من طريق شيخه أحمد بن المكي بن يرمق:
ــ يروي الشيخ الماسي عن الشيخ أحمد بن المكي بن يرمق السماتي الجبلي عن الحسن بن محمد اللجائي المعروف بكنبور عن المعمر محمد بن إبراهيم الزروالي العصفوري عن أبي الحسن علي الحساني العمراني عن أبي زيد عبد الرحمن المنجرة بأسانيده.
ــ ويروي العصفوري أيضا عن محمد بن عبد السلام الفاسي وعن عبد السلام المشهور بالشريف الزروالي كلاهما عن أبي زيد المنجرة بأسانيده.
ــ وفي إجازة الشيخ طاهر حريري العبدي ـ رحمه الله ـ للشيخ الحسن غرور بن محمد بن قدور الحمري الريحاني العدل بمدينة الشماعية بالعشر الكبرى وللشيخ عبد الله عايش الدروي المدرس بمدرسة المعاشات بأحد الدرى من إقليم الصويرة، أن الشيخ ابن يرمق يروي العشر عن الحاج سيدي محمد التلمساني عن سيدي عبد المالك الأندلسي عن أبي الحسن القنطري بمكة عن الشيخ سراج الدين عمر اليمني الشوافي قرأ على جماعة قرأوا على الإمام العلامة محمد بن القطان خطيب المدينة المنورة وإمامها عن الشيخ زين الدين عبد الغني الهيتمي المصري وهو عن خاتمة القراء المحققين شمس الدين محمد ابن الجزري بسنده إلى الإمام أبي القاسم الشاطبي عن ابن هذيل عن ابن نجاح عن الداني بأسانيده المذكورة في كتبه.
2 ـ إسناده من طريق شيخه محمد بن عبد الله الضحاكي:
ويروي الشيخ الماسي عن محمد بن عبد الله الضحاكي الساحلي عن أبي العباس أحمد أنجار عن محمد بن حسين التمكدشتي، عن شيخه مبارك بن هدي السرغيني، عن محمد بن عبد السلام الفاسي، عن أبي زيد عبد الرحمن بن إدريس الحسني المنجرة، عن أبيه إدريس عن شيوخه المذكورين في فهرسته.
3 ـ إسناده من طريق شيخه محمد بن عبد القادر الشيظمي:
ورد في سند الشيخ محمد بن الشريف السحابي أن الشيخ الماسي يروي القراءات عن محمد بن عبد القادر الشيظمي عن الشيخ محمد الزوين عن الشيخ محمد التهامي الأوبيري عن الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي عن الشيخ عبد الرحمن المنجرة عن والده إدريس المنجرة عن أبي عبد الله محمد الهواري السرغيني عن عبد الرحمن ابن القاضي بأسانيده المعروفة إلى الداني وابن نفيس.
المبحث الثالث: مناقبه وثناء العلماء عليه.
يعد الشيخ الماسي من أعلام عصره في تلقين القراءات القرآنية بسوس والحوز؛ إذ يصفه مؤرخ سوس العلامة محمد المختار السوسي بقوله: " الأستاذ الكبير الطائر الصيت، الذي طال عمره في تعليم القراءات السبع في (سوس) إلى أن حط رحله في مدرسة (أيت أورير) بـ (مسفيوة) حيث أمضى بقية عمره، وهو آخر الحمزيين الكبار المتقنين للفن".
وقال عنه في أثناء حديثه عن عمه الفقيه الصوفي الحسن الماسي في كتابه من أفواه الرجال: "وابن أخيه هو المشارط اليوم بمدرسة "آيت اورير" بأحواز مراكش، ويسمى سيدي إبراهيم الحمزاوي، وقد حدثني عن أسرته أنباء تدل على أنها حافلة في الماضي بالمعارف والسيادة ودراسة القراءات السبع، ويكفيك أن سيدي إبراهيم هذا اليوم هو المنفرد في تلك الأحواز بإقراء القراءات بعد مدرسة سيدي الزوين".
ويقول عنه الشيخ الحاج إبراهيم مكرم الماسي: "وهو آخر من عرف العشرين بسوس".
ومما أخبرني به الشيخ إبراهيم الأنصاري شيخ مدرسة المنيزلة بهوارة أن الشيخ الطاهر الناصري ابن البشير الإفراني رحمه الله حدثه أن الشيخ الماسي جمعه بقراء مراكش مجلس ببيت الباشا الكلاوي بعد أن شارط الماسي بأورير فقال الكلاوي لمن حضر من قراء البلد: هل اختبرتم هذا السوسي؟ فسأله بعضهم أن يقرأ قوله تعالى: "ولا تنس نصيبك من الدنيا" بالسبع فقرأها بالعشرين، فلما فرغ من قراءته، قال للكلاوي: لم تجمعني بهؤلاء القراء في بيتك للضيافة والإكرام وإنما لتختبرني، فلْتُوفِّر لي وإياهم المأكل والمشرب مدة عام كامل أحاضرهم فيه في أحكام الألف وحدها فإن خرجت عن أحكامها إلى غيرها مدة العام تركت الذل والهوان لسوس وأهله، قال: فقام الكلاوي حتى قبَّل رأسه معتذرا ومقرا بفضل الشيخ وعلمه.
قال الشيخ مكرم: "ورحب به الكلاوي وأقره بمدرسة أيت اورير. . . واعتنى به إلى أن توفي رحمه الله".
المبحث الرابع: تصدره للإقراء بمدرسة أخليج وسببه:
تقدمت الإشارة في صدر هذا البحث إلى أن جل أخبار الشيخ الماسي تحكمه الرواية الشفوية عن مشايخ الإقراء الذين أدركوه أو أدركوا تلاميذه، ومنهم جماعة من أهل سوس وعبدة والشياظمة كتب الله لنا اللقاء بهم واستقاء هذه المعلومات عنهم، وهم عندنا عدول ثقات في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فبخصوص أوليات الشيخ الماسي في الشرط والتدريس، فقد أخبرني الشيخ إبراهيم الأنصاري شيخ مدرسة المنيزلة بضواحي اولاد تيمة بهوارة أن الشيخ الماسي كان يقرئ القراءات في بداياته بمدرسة الجمعة بمنطقة آيت عبد الله من قبيلة آيت بعمران.
ويظهر من قول السوسي في المعسول عن الماسي: "طال عمره في تعليم القراءات السبع في سوس إلى أن حط رحله في مدرسة أيت اورير" أن الشيخ الماسي مارس التدريس والإقراء مدة طويلة بسوس قبل أن يتحول عنها إلى حوز مراكش، وهو ما يؤكده قول الحاج مكرم عنه: "يشارط في المدارس القرآنية".
وسمعت من عدد من مشايخ سوس منهم الحاج حسن السحياوي وغيره أن الماسي قصد أولا بعد قدومه من جبالة مدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش ليشارط بها ويفيد بما جمعه من علم بالقراءات القرآنية بهذه المدرسة الذائعة الصيت في هذا المجال، وأن الطلبة اجتمعوا عليه وأعجبوا بمستواه وطريقته الجديدة التي أخذها في جبالة في تصحيح اللوح والتعليق عليه بذكر النظائر و"الحطيات" و"الأنصاص" و"العدد" على طريقة أهل شمال المغرب بجبالة وما إليها، فضاق به المشايخ المتولون للإقراء بالمدرسة في ذلك الوقت ذرعا ونافروه حتى اضطر للعدول عن نيته في الشرط بهذه المدرسة.
وانتقل الشيخ الماسي بعد ذلك إلى مراكش، وكان يتردد على دروس العلم بمساجدها العامرة، إلى أن هيأ الله له بذلك أسباب التصدر للإقراء بمدرسة جديدة عرفت بمدرسة "أخليج" بقرية آيت اورير من بلاد مسفيوة بحوز مراكش، ولذلك قصة طريفة تزكي ما سبق أن قررناه من أثر السلطة الراشدة في دعم العلوم إذا وجدت من العلماء المخلصين من يوجهها في هذا الاتجاه، وتتعلق القصة بمبادرة تاريخية كريمة كانت من المقرئ السبعي الفقيه الوزير مصباح بلاد دكالة ورأس أعلامهـــا في القـرن الماضي الشيخ الحافظ أبي شعيب الدكالي الصديقي (ت 1357 هـ) رحمه الله.
فقد حدثنا المقرئ الحاج الطاهر حريري عن شيخه سيدي علال القاسمي أن سبب قراءته للعشرين ومهارته فيهما، يرجع الفضل فيه بعد الله عز وجل إلى الشيخ أبي شعيب الدكالي، وذلك أنه لما تصدَّر في مسجد المواسيـن بمراكش لإلقاء دروس التفسير، كان يحضره التهامي الكلاوي باشا مراكش وأعوانه، فبينما هو يفسّر قوله تعالى: " ترهِبون به عدو الله وعدوكم " قال: قرئ " ترهبون " في السبع بالتخفيف للهاء، وقرئ خارج السبع بتشديدها، ولكن لا أدري من قرأ بها؟. ثم نظر إلى من في المجلس من طلبة مراكش وعلمائها لعله يجد من يعلم ذلك، فلم يجبه أحد، وإذا برجل في أقصى الحلقة يرفع أصبعه ويقول: قرأ بها من الرواة عن العشرة رويس عن يعقوب الحضرمي، قال: فالتفت الشيخ أبو شعيب إلى الباشا، وقال له: عليك بهذا الرجل، فقال: وما أصنع به؟ قال: تبني له مدرسة، وتجمع له حفاظ القراءات السبع من القبائل ليستكملوا عليه القراءات، فإنه إذا مات هذا لم يبق أحد يعرف ما رأينا وسمعنا. قال: وكان هذا الشيخ قارئا يحفظ العشرين الكبير والصغير وهو من أهل سوس، ويدعى سيدي إبراهيم الماسي، فأمر باشا مراكش في الحال ببناء مدرسة للشيخ إبراهيم الماسي في قيادة آيت أورير بقبيلة مسفيوة، وأمر القواد من القبائل أن يبعثوا إلى هذه المدرسة من عندهم من القراء.
ويرجح أن تولي الشيخ الماسي للإقراء بمدرسة أيت اورير التي عرفت بمدرسة أخليج كان بعد سنة 1330 هـ / 1912 م وهي السنة التي استقر بها الشيخ أبو شعيب بمراكش وولي فيها القضاء ثم وزارة العدلية.
وكان الذي تولى أمر استنفار قراء آسفي وعبدة إلى مدرسة أخليج بأمر من الباشا المذكور هو القائد الشهير الفقيه السيد عبد الكبير نجل الحاج المختار العبدي العامري البوكدراوي المعروف بالقايد ولد الحاج المختار رحمه الله، وقد نوه المقرئ الشيخ القاضي المامون العبدي في ختام رمزية كتبها بيده في العشر الصغير بهذا الفضل العظيم لهذا القائد في إحياء أمر العشرين ببلاد عبدة وما والاها وندب القراء السبعيين لاستكمال تكوينهم فيها برحاب مدرسة أورير وعند شيخها الماسي فقال: "وكان إحياء ما سطرته أعلاه على يد الفقيه الأمجد العالم النحرير الفاضل القائد السيد عبد الكبير نجل الحاج المختار العبدي العامري كان قاطنا بناحية الولي الصالح سيدي مبارك بوكدرا، متعه الله بعقله حتى يموت، جعله الله من المحبوبين ومن المقبولين".
وفي هذه الحملة المباركة أخذ القائد المذكور لهذه المدرسة من بلاد عبدة ممن قرأوا فيها بالعشرين أربعة ـ ستأتي تراجمهم في تلاميذ الماسي ـ هم:
ـــ الشيخ سيدي سعيد الجرموني.
ـــ السيد اسعيد الكرعاني.
ـــ السيد علال القاسمي.
ـــ السيد الحاج عابد السوسي.
ومما سمعته من الشيخ المقرئ العشري الطاهر حريري ـ رحمه الله ـ أن القائد ولد الحاج المختار كان يعطي لكل قارئ سبعي انتدبه لهذه المهمة خمسمائة ريال حسنية ناجزة ومثلها حين يعود.
وبهؤلاء الأربعة أحيا الله ــ عز و جل ــ هذا العلم وحفظه في مدرسة سيدي الزوين وفروعها طوال القرن الماضي، وذلك بعد أن توفي الماسي ــ رحمه الله ــ فانتقل هذا الشأن مرة أخرى، وتجددت حيويته في مدرسة سيدي الزوين، وما تزال بقية من آثاره في البلدان والمدارس المجاورة في الحوز وأحمر وعبدة ودكالة والشياظمة وغيرها إلى اليوم.
كما أحيا الله بهذا الشيخ الماسي الطرق النافعية المعروفة بالعشر الصغير بهذه الديار، فقصده الراغبون في تحصيلها، وبقيت مدرسته تؤدي رسالتها في هذا الباب مدة حياة الشيخ، وقد اعتنى الباشا الكلاوي بأمر هذه المدرسة واحتفى بالشيخ الماسي كثيرا اعترافا بفضله وعلمه. قال الشيخ محمد المختار السوسي: " وقد اعتنى به الحاج التهامي الجلاوي، فقام به خير قيام في هذه المدرسة، إلى أن مات بعد 1360هـ".
وقال الشيخ مكرم: "ورحب به الكلاوي وأقره بمدرسة أيت اورير. . . واعتنى به إلى أن توفي رحمه الله".
لكن الدراسة بهذه المدرسة لم تدم إلا مدة حياة الشيخ الماسي، لتنقطع منها بموته رحمه الله، خاصة بعد انقطاع الدعم عنها بسبب ما نال الكلاوي الذي كان يتولى رعايتها من نكبة بسبب مواقفه الموالية لسلطات الاستعمار الفرنسي والمعادية للعرش العلوي المجيد كما هو مذكور في التاريخ، ثم ما قام به القائد ابن القرشي الوريكي من بناء مدرسة أخرى بجوار مدرسة الكلاوي بأيت اورير، بقصد محو أمجادها، وما تزال مدرسة الوريكي قائمة كما يذكر أهل المنطقة، لكنها ليست فيها دراسة، كما لا تزال أيضا أطلال مدرسة أخليج موجودة إلى اليوم بآيت اورير، مذكرة بما كان لهذه المدرسة من ماض مضيء حين كانت تؤوي في رحابها ما يفوق أربعمائة قارئ كما يحكي عنها ذلك من أدرك مجدها الشامخ من أهل المنطقة وقرائها.
المبحث الخامس: تلاميذه وإشعاع مدرسته:
أتاح تصدر الشيخ الماسي بمدرسة أخليج للإقراء وتردد اصداء إمامته في فنه مع تولي الدولة ممثلة في قوادها بالمناطق المختلفة مهمة استنفار القراء للأخذ عنه والرحلة إليه ودعمها لمن يرغب في ذلك بالأعطيات السخية، أتاح كل ذلك وفرة من قصده من التلاميذ للأخذ عنه، وقد اشتهر ممن أخذوا عنه وخلفوه في نشر العشرين جماعة تصدروا بسيدي الزوين وغيرها، واتصلت الروايات القرآنية من خلالهم إلى خلق عريض من تلاميذهم يضيق الحصر بتعدادهم، لكن القصد في هذا المقام التنبيه على أسماء من وقفت على أخذه عن الماسي مع ذكر مشاهير تلاميذهم الذين قاموا بهذا الشأن بعدهم واشتهروا به في العقود المتأخرة؛ فمن مشاهير تلاميذ الآخذين عن الماسي:
1ــ الشيخ صالح ابن الفقيه حمان العبدي الغياثي المراحي المكناسي، صاحب المدرسة القرآنية بآل غياث بعبدة. وقد تقدم في مبحث شيوخ الماسي النقل عن رمزية لأحد تلاميذه وهو الشيخ المامون العبدي الآتي في الآخذين عنه، وفي آخرها التنصيص على أخذ الشيخ صالح الغياثي عن الماسي.
ومن مشاهير الآخذين عن الشيخ صالح كما تقدم المقرئ العبدي الشهير السيد المامون بن الشريف العربي العبادي البحتري الغنيمي السلهامي الجبلي أصلا، من ذرية مولاي بوسلهام ونسل مولاي عبد السلام القاضي بمدينة أسفي المتوفى بها قبل قرابة عشر سنوات، وعندي مصورة عن رمزية مكتوبة بالألوان في غاية الجودة والحسن كتبها بخطه في مجلد كبير، فرغ من نسخها في ثامن عشر ذي القعدة سنة 1360 هـ الموافق 24 نونبر 1941 م، وفيها الإشارة إلى تلقيه عن شيخه صالح الغياثي العشرين الكبير والصغير عن شيخه الماسي، حيث قال: "الحمد لله وحده، وبعد، يقول أفقر العبيد إلى ربه العبد الضعيف المامون بن العربي: قد حفظت قراءة ابن كثير في أربعة أشهر سنة 1352 وابن العلا البصري في ثمانية أشهر سنة 1353 وحمزة في ستة أشهر سنة 1355 والعشر الكبير في 18 يوما سنة 1360 والعشر الصغير في خمسة أشهر سنة 1361 وبعد انتهائي من هذه الفنون ذهبت إلى قراءة العلم". ثم بعد ذكره سنده بهذه القراءات إلى الماسي عن شيخه صالح الغياثي على نحو ما سقناه سابقا، ساق نص إجازة الشيخ صالح له، وهي: "الحمد لله وحده، وبعد، إن تلميذنا الفقيه الأستاذ الشريف السيد المامون بن الشريف السيد العربي قد حصلت له الكفاية فيما رواه عنا في قراءة العشر الكبير والعشر الصغير في خمسة أشهر، ولم يحصل لنا من الشريف المذكور تعب في قراءته؛ لأن له لُبّاً كاملا صريحا متعه الله به حتى يموت، وقد أذنت له بالقراءة في جميع ما رواه عنا وأجزت له ذلك، فالله يصلحه، وبهذا يقول عبيد ربه صالح بن حمان المكناسي".
وتحته: "قال عبيد ربه العبد الضعيف صالح بن حمان العبدي لغياثي لمراحي المكناسي: قد حفظت قراءة الثلاثة المكملين العشرة وهم اليزيد [كذا] بن القعقاع وأبو يعقوب الحضرمي والبزار سنة 1341 وقراءة العشر الصغير سنة 1343، وبعد انتهائي من القراءة وقعتُ في الإهمال مع أهل زماني، ولم يعرف لي أحد ما أنا بصدده مدة من السنين، إلى أن ورد علينا تلميذنا الشريف الأديب المذكور سنة 1360 في رمضان المعظم وذهب بي إلى القائد السيد عبد الكبير المذكور ـ يعني القائد عبد الكبير ولد الحاج المختار قائد عبدة ـ وجلسنا معه وصار يتذاكر معه على إهمال هذا الفن، وحصل للقائد المذكور الشغف الغزير وأخذ بيدنا وأذن لتلميذنا المذكور بالقراءة، وهو أول من أخذ عنا، وقرأ العشر الكبير في 18 يوما والصغير في خمسة أشهر، ولو لزمته يوما يوما لحفظه في شهر واحد رضي الله عنه". اهـ.
وفي وسط الرمزية عند انتهاء نصف القرآن ما نصه: "ورويت هذا الفن على شيخنا المحقق سيدي صالح بن حمان العبدي البحتري لغياثي لمراحي المكناسي، وهو روى عن شيخه سيدي إبراهيم بن القاضي الماسي لغياثي، وشيخه عن الضحاك كان مشتهرا بسوس، غفر الله للجميع آمين".
ويظهر من نص الإجازة أن الشيخ المامون إنما أخذ عن الشيخ صالح الغياثي القراءات الثلاثة المكملة للعشرة والعشر الصغير. أما القراءات السبع فقد أخذها الشيخ المامون عن الشيخ سعيد بن عبد الرحمن (كروم) الحضري (ت 1413 هـ /1994 م) تلميذ الشيخ عبد الرحمن بن غانم العبدي بجمعة سحيم الذي أخذها عن الشيخ الزوين، وكان أخذ المامون عن الحضري السبع عندما كان الحضري مدرسا بزاوية سيدي علي بن حميدة الركراكية بمنطقة بير اكوات بإقليم الصويرة عام 1940 م، قبل أن ينتقل الشيخ الحضري مديرا للمدرسة العتيقة "دار زمامة" بإقليم خنيفرة ويشتهر بها ما بين سنة 1963 م وسنة 1986 م. وقد عمل الشيخ المامون الغنيمي قاضيا بعين الشق بالبيضاء، ثم زاول مهنة العدالة بالحي المحمدي بالبيضاء أيضا، وانتقل أخيرا قاضيا بآسفي حيث وافته المنية حوالي سنة 1422 هـ ـ 2001 م.
2 ـ علال بن إسماعيل القاسمي الكادي المويسي العبدي: وهو من حفاظ السبع الذين انتدبهم قائد عبدة الحاج عبد الكبير ابن الحاج المختار ـ كما تقدم ـ بأمر من باشا مراكش الكلاوي للقراءة على الشيخ الماسي بالمدرسة التي بناها له. قرأ بالسبع على السيد مبارك أبانا المراسلي في مدرسته بالحنيبلات نواحي خميس أنكة بعبدة، وقرأ مبارك ابانا القراءات بالشياظمة على السيد عبد الله بن الحفيظ بمدرسته في زاوية سيدي عيسى بوخابية الرجراجي، ثم انتقل إلى مدرسة الحنيبلات فأقرأ بها إلى أن توفي، وبها قرأ عليه الشيخ علال، كما قرأ على سيدي سعيد الجرموني، قبل أن يرافقه للقراءة بالعَشْرَين الكبير والصغير على السيد إبراهيم الماسي بآيت أورير. وأخبرني الشيخ الفاضل عبد السلام كادي ــ وهو من أسرة الشيخ علال وأحد أعضاء اللجنة التي أشرفت على إنجاز المصحف المحمدي ــ أن الشيخ علال كان مشارطا عندما دعاه القائد المذكور ليلتحق بمدرسة أيت اورير بزاوية الفقيه الماكري بناحية خميس أنكة بمنطقة عبدة بعد أن حفظ السبع، وكان للفقيه الماكري تعلق به لمكانته في علم القراءات، فلما أحس رغبته في الانتقال للمشارطة في مكان آخر زوجه بنته استبقاء له بالزاوية المذكورة. وكان الشيخ علال يدرس بها العلم على فقيه يسمى الشيخ الحَيْسْني. وكان سيدي علال مشارطا بالزاوية بثمانين ريالا حسنية، حتى استدعاه القائد ولد الحاج المختار ووجهه إلى آيت اورير ليقرأ على الماسي على ما تقدم، وأعطاه خمسمائة ريال حسنية ناجزة ووعده بمثلها حين يتم القراءة.
وبعد استكمال الشيخ علال لقراءة العشرين على الشيخ الماسي تصدر للإقراء بمدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش وذلك سنة 1956 م، وطالت مدة تصدره بها ومد الله في عمره حتى صار مديرا للمدرسة وشيخ الجماعة بها وقرأ عليه الآباء والأبناء والأحفاد، وبلغ طلبته العشرات، ما بين قارئ بالسبع أو بالعشر الكبير أو الصغير، وبقي على هذه الحال حتى شاخ وعجز وجاوز المائة بكثير، وتوفي بمراكش حيث كان يسكن في حي سيدي يوسف بن علي رحمه الله، وعليـــه تخرج جماعة، من مشاهيرهم:
أ ـ الشيخ سيدي سلام الغرباوي، أصله من طنجة، كان رفيق الشيخ علال مدة طويلة، وكان يدعوه بـ"الطفل" على كبر سنه لأنه لم يكن متزوجا، وكان يساعد الشيخ علال في إقراء طلاب السبع ويقرأ هو على الشيخ علال العشرين مدة طويلة، وكان مشهورا بالإتقان للقراءات وعلم الحط والعدد والإرداف على طريقة أهل الشمال. وحين كبرت سنه أعفاه وزير الأوقاف السيد أحمد رمزي من التدريس وأبقى له الراتب اعترافا بفضله وسابقته. وحين حل الشيخ سلام مدينة مكناس، قرأ عليه بالعشرين الشيخ إبراهيم بن مبارك بن علي الهلالي المكناسي، وكان يحفظ القراءات السبع. والشيخ إبراهيم الهلالي هو والد الدكتور محمد الهلالي وزير التربية والتعليم السابق، وله مكتبة معروفة بمكناس، وهو مؤلف كتاب "التبيان لمعركة ماء أبي فكران مع وجوب اتباع رسم الإمام" وهو مطبوع. كما أخبرني الشيخ محمد الشريف السحابي أنه قرأ على الشيخ سلام بعض القرآن بالعشرين على الطريقة الجبلية إلى قوله تعالى من سورة الأحزاب: "قد يعلم الله المعوقين منكم".
ب ـ الشيخ السالك الدكالي (ت 1425 هـ)، قرأ على الشيخ علال القاسمي السبع ولازمه طويلا، واستقر بمدينة خنيفرة، وعين رئيسا للمجلس العلمي المحلي بها عند إحداث المجالس العلمية سنة 2004 م، وهو ابن خالة الشيخ عبد الحميد الدمسيري الشيظمي الآتي.
ج ـ الشيخ محمد بن العابدة الشعيبي نزيل آسفي، وإمام مسجد عبد الجبار بحي زاوية سيدي واصل، أدركته ــ رحمه الله ـ وهو شيخ ناهز الستين وقد أقعده المرض فلا يسير إلا بصعوبة، وهو ممن قرأ على الشيخ علال السبع بمدرسة سيدي الزوين، كانت وفاته حوالي سنة 2000م.
د ـ الشيخ طاهر حريري العشراوي رحمه الله، أعجوبة الحفظ والاستحضار والهمة، عرفته منذ طفولتي في سنوات الثمانينات، وألفت تردده على منزلنا، وحتى خصصنا له غرفة خاصة بها من البيت سميناها بغرفة السيد الطاهر، وكان له ـ رحمه الله ـ حب غامر في الوالد حفظه الله، حفظ السبع على الشيخ امحمد العبادي ابن اذهيبة إمام مسجد الكورس بمدينة آسفي، ثم شد الرحال إلى مدرسة سيدي الزوين حيث قرأ بها العشرين على الشيخ علال القاسمي، ثم شارط بعد ذلك في عدة مساجد بعبدة ودكالة، ثم عين مدرسا للقراءات بمدرسة سيدي الزوين مدة أربع عشرة سنة، وانتقل بعدها مدرسا للقراءات بالمدرسة العتيقة التابعة للمسجد الأعظم بمدينة آسفي، ولم يطل مقامه بها، إذ فاجأه مرض في القلب أجرى بسببه عملية جراحية لم تكلل بالنجاح ليسلم الروح إلى بارئها سنة 1430 هـ رحمه الله رحمة واسعة، وكان له رحمه الله همة عظيمة في طلب العلم وجمع الكتب والمخطوطات ولو بذل فيها مالا كثيرا على إعوازه وضيق ذات يده رحمه الله، عاش عزبا ولم يتزوج قط. أخذ عنه العشرين الشيخ عبد الله عايش الدروي شيخ مدرسة المعاشات بأحد الدرى بإقليم الصويرة وأجازه بها، والشيخ العدل بمدينة الشماعية حسن غرور عضو المجلس العلمي لمدينة اليوسفية ولم يتم عليه وأتمه على تلميذه الشيخ عبد الله عايش بعد وفاة الشيخ الطاهر حريري، وممن أخذ عنه السبع ابن عمه الشاب اللبيب الحبيب الشيخ عبد الكريم حريري، وهو على خطا الشيخ الطاهر في حفظ العشرين على الشيخ عبد الله عايش، كما أنه يتابع دراسته النظامية في المرحلة الجامعية بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية أبي شعيب الدكالي بمدينة الجديدة.
هـ ـ الشيخ بوستة المختار بن الحسين الغجدامي قرأ العشرين بمدرسة سيدي الزوين على كل من الشيخ علال القاسمي والشيخ الحاج عابد، وعين مدرسا بها سنة 1969م، وما يزال يمارس تدريس القراءات بها إلى اليوم.
و ـ الشيخ عبد الكريم بن صالح الراجي الشيظمي، من حفاظ العشرين، تلقاهما عن الشيخ علال القاسمي. وعين مدرسا بمدرسة سيدي الزوين سنة 1972م، وما يزال مدرسا بها إلى اليوم.
ز ـ الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن العاطفي، التحق بمدرسة سيدي الزوين تلميذا سنة 1964م ودرس القراءات السبع على الشيخ القاسمي، وعين أستاذا بالزاوية سنة 1980.
ح ـ الشيخ مبارك الكركوري الشيظمي، قرأ السبع والعشرين على الشيخ علال بمدرسة سيدي الزوين، وانتقل إلى مدينة الدار البيضاء إماما فمدينة تمارة بضواحي مدينة الرباط، وهو اليوم مقيم بمدينة البيضاء.
ط ـ الشيخ أحمد بن محمد جميل العبدي القارئ السبعي، شيخ مدرسة سيدي أحمد الراضي الكانوني المطاعي بجهة الوليدية على ساحل المحيط الأطلسي. قرأ بالسبع على السيد محمد بلعابدة العبدي المتقدم، وعلى السيد محمد الطيمومي وسيدي سعيد الجرموني والسيد علال القاسمي والسيد امحمد العبادي، وما زال يقرئ القراءات في مدرسته، وفاز مؤخرا بجائزة الملك محمد السادس للكتاتيب القرآنية.
ي ـ محمد بن الشريف السحابي العبيدي الزعري نزيل سلا ـ حفظه الله ـ قبيلة بني عبيد زعير ضواحي مدينة الرباط عام 1370هـ - 1949 م، حفظ القرآن ببلدته، ثم انتقل صوب قبيلة بني مستارة بناحية مدينة وزان فدرس القرآن هناك وبعض المتون، ليشد الرحال بعدها إلى مدرسة سيدي الزوين، ومكث فيها يأخذ عن علمائها وشيوخها طيلة أربع سنوات، ما بين سنة 1970م1974. فأخذ بها القراءات السبع عن الشيخ عابد السوسي والشيخ محمد ابن فنن السرغيني والشيخ السالك الدكالي، وأخذ العشرين الكبرى والصغرى على الشيخ علال القاسمي، والشيخ اليوم مدير لمدرسة ابن القاضي بسلا التابعة لجمعية الشيخ أبي شعيب بسلا، وتخرج عليه ثلة مباركة من حفاظ القراءات جمعا وإفرادا من المغرب وخارجه مد الله في عمره ونفع بعلمه.
ك ـ الشيخ عبد الحميد الدمسيري الشيظمي، أخذ القرآن أولا بمدرسة سيدي عبد الله بن الحفيظ بزاوية سيدي عيسى بوخابية بأولاد الحاج من الشياظمة على الشيخ المقرئ السبعي السيد المهدي بو الضباية الذي خلف مؤسس المدرسة الشيخ عبد الله بن أحمد بن الحفيظ التلمستي تلميذ سيدي الزوين بعد موته سنة 1335 هـ، قرأ عليه الشيخ عبد الحميد الدمسيري برواية ورش عدة ختمات، وبقراءة المكي أحزابا من القرآن، ثم انتقل إلى بلاد دكالة فقرأ السبع على الشيخ ابن زهرة بمدرســة مولاي الطاهــر القاسمي بأولاد فرج بدكالة، ثم قرأ بالعشر أيضا بمدرسة سيدي الزوين على الشيخ علال القاسمي، ليرجع إلى مدرسة سيدي عبد الله بن الحفيظ، فقرأ بها على الشيخ المهدي بو الضباية ختمة بقراءة حمزة جمعــا بينه وبين باقي السبعة، والشيخ المهدي بو الضباية ممن أدرك سيدي الزوين وقرأ عليه. ثم شارط الشيخ الدمسيري بعدها بمدرسة ابن احميدة الركراكية ببير اكوات بإقليم الصويرة مدة، لينتقل إلى مدينة آسفي حيث أسس بمعونة بعض المحسنين معهد الإمام نافع للتعليم العتيق ويتولى إدارته، وقد صار هذا المعهد تابعا لوزارة الأوقاف ويقوم بدور كبير في تخريج أفواج طلبة التعليم العتيق، وبه اليوم زهاء المائتين من الطلبة. والشيخ الدمسيري اليوم عضو بالمجلس العلمي المحلي لمدينة آسفي.
3 ـ الشيخ سيدي سعيد بن أحمد الجرموني العبدي (ت 1382 هـ) دفين مدرسة سيدي الزوين، من أكابر تلاميذ الشيخ الماسي وأوسعهم شهرة، قرأ القرآن في مسجد قريته، ثم شرع في القراءات، وحفظ السبع على القارئ المتقـن السيد الطـيب العبدي، ثم شارط في عدة مساجد، وكان يقرئ بمدرسة ولد سيدي سعيد الحفيان في نواحي سوق جمعة سحيم قبل انتقاله إلى مدرسة سيدي الزوين، وعليه قرأ بها السيد محمد بن دحّو شيخ القراءات بمدرسة المعاشات بأحد الدرى بناحية مدينة الصويرة رحمه الله، والقاضي السيد المامون الغنيمي كما أخبرني بذلك المقرئ الحاج أحمد جميل شيخ القراءات بمدرسة سيدي الراضي بنواحي الوالدية حفظه الله. والشيخ الجرموني تلا عليه لورش جدي لوالدي الشيخ عبد الله بن إبراهيم حميتو رحمه الله.
وقد يلتبس اسم هذا الشيخ باسم فقيه آخر يشترك معه في النسبة إلى الجرامنة وهي قرية بجوار ثلاثاء مبارك بوكدرة، وهو الفقيه سيدي سعيد الجرموني، ومن أبنائه الشيخ محمد خطيب مسجد ثلاثاء بوكدرة وأخوه عبد الجبار وهما من حفظة كتاب الله يقيمان بمدينة آسفي، ويشرفان على موسم قرآني سنوي يتوج بزيارة لمدرسة سيدي الزوين. ومن مشاهير تلاميذ المقرئ الشيخ سعيد الجرموني:
أ ـ محمد التلاوي الحنجري الشيظمي الحمزاوي، وقرأ أيضا قليلا على الشيخ سيدي محماد أوبراهيم الزغاري التباردي البصراوي السباعي الأصل شيخ مدرسة البير الفايض بناحية سبت الكريمات بقبيلة الشياظمة رحمه الله، وهو شيخ والدي في حفظ القرآن الكريم. وهذا التلميذ ـ أعني التلاوي ـ عمل بالتعليم حتى سن التقاعد بمدينة الدار البيضاء، وهو اليوم حي يرزق متعه الله بالعافية.
ب ـ الشيخ عمر بن الصديق القادري شيخ مدرسة زاوية ابن الأحول بحوز مراكش، قرأ على شيوخ مدرسة سيدي الزوين، ومنهم تلاميذ الماسي الأربعة: الشيخ سعيد الجرموني والشيخ علال القاسمي والشيخ عابد السوسي والشيخ ابن فنن السرغيني.
4 ـ الشيخ عابد بن محمد الكرسيفي السوسي: هو من كبار طلبة الماسي الذين أخذوا عن الماسي العشرين، تبوأ كرسي الإقراء بمدرسة سيدي الزوين سنة 1960م، وكان هذا الشيخ إمام مدرسة الشيخ الماسي ومؤذنها، وكانوا يلقبونه بـ"البقرة" لالتهامه كل ما يكتبه له الماسي في لوحه على ما يحكيه الشيوخ.
5 ـ الشيخ سعيد الكرعاني، درس على الماسي، وعاد فشارط في بلده بمنطقة الكرعان بضواحي سبت جزولة بقبيلة عبدة إلى توفي رحمه الله، وانتفع به خلق كثير من الحفاظ، وما تزال هذه المنطقة من أوفر جهات قبيلة عبدة حفاظا إلى اليوم.
6 ـ الشيخ أحمد بن عائشة الشرشمي نسبة لدوار الشراشمة بنواحي سبت جزولة، كان حافظا للعشرين أخذهما عن الشيخ الماسي، وأخبرني الشيخ عبد السلام الكادي أنه لم يشارط قط ولم يقرئ أحدا ومات في عقده السابع.
7 ـ محمد بن الحسن الماسي، ابن أخي الشيخ الماسي، ترجمه في المعسول، وذكر أخذه القرآن والعلوم بسوس عن أبيه الفقيه المقرئ السبعي الحسن بن محمد من أتباع ومريدي الشيخ علي الدرقاوي الإلغي والد صاحب المعسول، ثم التحق بالشيخ محمد المختار السوسي فلزمه بالرميلة سنين، ودرس بمدرسة ابن يوسف. وفي كتاب التعريف بقبيلة ماسة للعدل الشيخ الحاج إبراهيم مكرم: "أخذ قراءة السيد البصري عن عمه السيد إبراهيم ند القاضي بمدرسة أيت اورير بضواحي مراكش، وقام بمسجد بنكمود يساعد المدرس فيه السيد الحاج إبراهيم الماسي في تصحيح ألواح الطلبة، ولم يلبث إلا قليلا أن التحق بمدرسة أبي النعمان بأيت بريم، ومنها انتقل إلى مراكش عند السيد المختار السوسي، بيد أن أيام حوادث احتضار عهد الحماية فرقهم شغر بغر، ورجع إلى الشرط بمدرسة سيدي وكاك بأكلو، بضواحي تزنيت، إلى أن توفي عمه السيد العربي ند القاضي، فرجع إلى مسجد أغبالو ماسة إلى أن توفي ـ رحمه الله ـ أوائل شهر رمضان عام 1411 هـ".
8 ـ سيدي عبد الله بن سعيد بن محمد إيمحي الحاحي(1320 ـ 1415 هـ)، آخر المحققين إطلاقا في ميدان القراءات بحاحا، نبغ في عدة علوم، ترجمه الشيخ العلامة الفقيه إبراهيم إذابراهيم التامري في كتابه المتعة والراحة، وقال في ترجمته: "وجال في حوز مراكش سعيا وراء فن القراءات، فكان في مدرسة أخليج يتلقى عن الحمزاوي الشهير سيدي إبراهيم الماسي".
9 ـ محمد ابن فَنَن السرغيني: درس بمدرسة سيدي الزوين مدة طويلة، وممن أخذ عنه الشيخ محمد بن الشريف السحابي العبيدي الزعري نزيل سلا أطال الله بقاءه.
10 ـ الفقيه الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد الومهالي، أخذ عن العلامة سيدي الحاج عابد بن عبد الله البوشواري، عالم حسن فقيه فرضي، يقضي أيضا يفتي كأبيه، وقد مارس المشارطة كغالب أهله، فلم يعهد منه كأسلافه جولان في التعليم، ولد يوم 13 محرم عام 1298 هـ، وتوفي يوم 11 ربيع الثاني عام 1349هـ. قال السوسي: "وقد كان غاب عن أهله في سفرة إلى مسفيوة بحوز (مراكش) نازلاً عند الأستاذ سيدي إبراهيم الماسي معلم مدرسة (أيت أوورير) الشهير، فهناك لحقه أجله".
11 ـ الشيخ الحاج الحسين البرحيلي: لم يبق على قيد الحياة اليوم من تلاميذ الشيخ الماسي غيره، درس على الماسي وهو صغير في عمر الثانية عشرة، وهو اليوم شيخ مسن طاعن في السن، وما زال يسكن في بيت المدرسة التي أمضى عمره مدرسا بها بأولاد برحيل بضواحي تارودانت، وقد كان أولا يدرس فيها على الشيخ العدل عطفاي والد الأستاذ والمقرئ السبعي المعروف بمدينة الدار البيضاء، ثم خلفه فيها، والشيخ عطفاي ما زال على قيد الحياة بحي الباطوار بمدينة أكادير.
المبحث السادس: وفاته وآثاره.
أدركت المنية الشيخ الماسي وهو يدرس بمدرسة أخليج، ويذكر السوسي أن ذلك كان بعد سنة 1360 ه ـ، وفي التعريف بقبيلة ماسة أنه: "توفي في أواخر الستينات من القرن الرابع عشر الهجري، ودفن هناك".
أما آثاره فأعظمها ما خلف وراءه من تلامذة حملوا بعده مشاعل القراءات العشر في مدارس مختلفة من جهات الجنوب المغربي، خاصة في مدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش.
كما أن له بعض الرمزيات في العشرين الكبير والصغير بخط يده رحمه الله عند بعض القراء، وخطه متوسط إلى الرداءة أقرب، وعند الشيخ محمد أيت سي علي المعروف بأرسموك شيخ مدرسة بنكمود بهشتوكة بعضها.
خاتمة:
وبعد، فهذه محاولة متواضعة للتعريف بأحد أعلام القرآن الكريم وقراءاته ببلدنا الحبيب، إحياء لذكراه في هذا المحفل العلمي المجيد المخصص لأهل القرآن، ووفاء بما كان له من جهود عظيمة بقي بها حبل هذه العلوم متصلا إلى اليوم بهذه الربوع، وإني أرى أن أكبر توصية أختم بها هذا البحث التنبيه إلى أن من الواجب الجسيم الذي يجب أن تضطلع به النخبة العالمة في بلدنا بمؤسساتها وهيآتها العاملة في ميادين البحث العلمي إنقاذ سير هؤلاء القراء وأخبارهم من الضياع والنسيان بتقادم زمانهم وانقراض أهل جيلهم والآخذين عنهم. وقد كان الشيخ محمد المختار السوسي قد أحس بهذا الواجب فتمنى أن لو سمح له الوقت أن يقوم به في حق أحد كبار قراء قطره سوس وحق تلامذته، وهو الشيخ أحمد أنجار البعمراني، فقال عند ترجمته في رجالات العلم العربي بسوس ص 227: " من أكابر القراء من أواسط القرن الماضي، وله شُهرة لا تزال تطن بها الأندية، ربض في مدرسة أكلو كثيرًا، فأصدر نَحو المائة من القراء الكبار، ولو كانت العناية متوفرة لجمع أخباره وأخبارهم لكانوا أحق بأن يفردوا بتأليف". ولعلنا بعملنا المتواضع هذا نكون قد سرنا خطوة في هذا الدرب ليقتدي بنا فيها غيرنا بحول الله وتوفيقه.
ولا شك أن بعث سير هؤلاء الأماجد في مثل هذه المجامع العلمية المنيفة ما هو إلا جزء يسير مما يجب لهم علينا من واجب البرور والعرفان، والشكر والامتنان، فقدس الله مضاجعهم، وطيب مراقدهم، ورفع درجاتهم في عليا الجنان، وجمعنا بهم في دار الرضوان، بشفاعة القرآن، إنه هو الكريم المنان.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: