بودفلة فتحي
New member
- إنضم
- 10/08/2010
- المشاركات
- 295
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
ملحق بمحور أقسام الحديث باعتبار القبول والردّ
أوّلا: فوائد متعلقة بالصحيح
ما سبب اختلاف أهل العلم في تصحيح الأحاديث ؟
قال ابن الصلاح: " وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِيهِ، أَوْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي الْمُرْسَلِ." [مقدمة ابن الصلاح بتحقيق نور الدين عتر ص 13]
انطلاقا من نص ابن الصلاح هذا، يمكننا حصر أسباب اختلاف الحفاظ في التصحيح في سببين اثنين :
أوّلهما: اختلافهم في اشتراط بعضها، ومثّل له بالمرسل؛ إذ بعض أهل العلم لا يرى بأسا في إرسال الحديث ولا يعدّه قادحا في صحّته...وأكثر الفقهاء والأصوليين يخالفون أهل الحديث في هذه الشروط، ذكر الزركشي عن أبي الحسن بن الحصار الأندلسي قوله في تقريب المدارك على موطأ مَالك: "إِن للمحدثين أغراضا فِي طريقهم احتاطوا فِيهَا وبالغوا فِي الِاحْتِيَاط وَلَا يلْزم الْفُقَهَاء اتباعهم على ذَلِك كتعليلهم الحَدِيث الْمَرْفُوع بِأَنَّهُ قد رُوِيَ مَوْقُوفا أَو مُرْسلا وكطعنهم فِي الرَّاوِي إِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ أَو بِزِيَادَة فِيهِ أَو لمُخَالفَة من هُوَ أعدل مِنْهُ وأحفظ..." قَالَ: "وَقد يعلم الْفَقِيه صِحَة الحَدِيث بموافقة الْأُصُول أَو آيَة من كتاب الله تَعَالَى فيحمله ذَلِك على قبُول الحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ واعتقاد صِحَّته وَإِذا لم يكن فِي سَنَده كَذَّاب فَلَا بَأْس بِإِطْلَاق القَوْل بِصِحَّتِهِ إِذا وَافق كتاب الله تَعَالَى وَسَائِر أصُول الشَّرِيعَة..."
وقد استغرب ابن عبد البرّ تصحيح البخاري لحديث أبي هريرة رضي الله عنه "هو الطهور ماءه الحلّ ميتته" رغم مخالفته لأصول أهل الحديث ورجح ابن الحصار أنّه في خصوص هذا الصنيع قد أخذ بمذهب الفقهاء في التصحيح قال ابن عبد البر : " وَمَا أَدْرِي مَا هَذَا من البُخَارِيّ وَأهل الحَدِيث لَا يحتجون بِمثل إِسْنَاده وَلَكِن الحَدِيث عِنْدِي صَحِيح من جِهَة أَن الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ" قَالَ ابْن الْحصار: "وَلَعَلَّ البُخَارِيّ رأى رَأْي الْفُقَهَاء" اهـ
[النكت على ابن الصلاح للزركشي (794هـ) تحقيق زين العابدين بن محمد بلا فريج. اضواء السلف الرياض الطبعة الأولى 1419هـ 1998م 1\106-107-108]
ومثال آخر ها هنا اشتراط عدم الشذوذ، قال الزركشي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح: " وَالتَّحْقِيق أَن الشاذ الَّذِي يُخَالف الصَّحِيح هُوَ الشاذ الْمُنكر أَو الَّذِي لم ينجبر شذوذه بِشَيْء من الْأُمُور الْمَذْكُورَة فِي انجبار الْمُعَلل والشاذ" [ النكت للزركشي 1\115]
ثانيهما: تحقّق هذه الشروط، فقد قد يعدّ الناقد راوٍ من الرواة غاية في الضبط ويعدّه أخر خفيف الضبط، ومثل ذلك يقال في عدالة الرواة، وفي اتّصال السند... [انظر: مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني (805هـ) تحقيق عائشة بنت الشاطئ دار المعارف القاهرة (د ت) ص152]
ما هو الفرق بين قولهم حديث صحيح وإسناد صحيح ؟
· إنّ تصحيح الإسناد لا يقتضي تصحيح الحديث باعتبار الحديث متكوّنٌ من سند ومتن وصحّته متوقفة على صحّة جزئيه كليهما. فقد يكون الحديث صحيح الإسناد ضعيف المتن بسبب شذوذه أو اضطرابه أو إدراجه أو تصحيفه ونحو ذلك.
· ويرى الزركشي أنّ صحة الإسناد إنّما تكون من جهة اتّصاله، وصحّة الحديث تتمثل في اتّصال السند إضافة إلى باقي الشروط المذكورة في تعريف الحديث الصحيح. [النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي 1\119-120]
أصحّ الأسانيد:
[معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم (405هـ) تحقيق السيد معظم حسين دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثانية 1397هـ 1977م ص53 وما بعدها، مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني (805هـ) تحقيق عائشة بنت الشاطئ دار المعارف القاهرة (د ت) 152 وما بعدها...، معجم مصطلحات الحديث 36، الباعث الحثيث 1\101]
لأنّ شروط الصحة التي تقدّم ذكرها تتفاوت - قوةً وتواجداً وتمكّنا - من سند لآخر، تفاوتت هذه الأسانيد من حيث القوة والصحة؛ فكلّما كانت هذه الشروط أبين وأظهر وأمكن كانت الأسانيد أقوى وأصحّ.
وقد اختلف نظر المحدثين واجتهاداتهم في تحديد أقوى الأسانيد وأصحّها، وسأذكر ها هنا جملة من هذه الأسانيد التي وصفت بكونها الأقوى والأصحّ:
والذي رجّحه أحمد شاكر وهو ظاهر صنيع الحاكم أنّ إطلاق حكم أصحّ الأسانيد هكذا فيه كثير من المجازفة، وهو حكم عام مطاط ومبهم لا يمكن ضبطه إلاّ بشيء من التحديد والتقييد كأن ينسب إلى صحابي أو بلد أو إمام فيقال:
1. أصحّ الأسانيد عن أبي بكر رضي الله عنه: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه.
2. أصح الأسانيد عن عمر: الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه، وقيل: الزهري عن السائب بن يزيد. وقيل: ما رواه عنه ابنه عنه رضي الله عنهما، واختلفوا في أصحّ الأسانيد عن عبد الله بن عمر فقيل: مالك عن نافع عن ابن عمر، اختاره البخاري كما تقدّم والزهري عن سالم عن أبيه، اختاره أحمد، وقيل: أيوب عن نافع عن ابن عمر، وقيل: يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.
3. أصح الأسانيد عن علي: تقدم ذكر بعضها، وقيل أصحّها ما رواه يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي، وقيل أصحّ أسانيد أهل البيت ما رواه الثِقاة عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي.
4. أصح الأسانيد عن عائشة : هشام بن عروة عن أبيه عنها وقيل أفلح بن حميد عن القاسم عنها، وقيل سفيان الثوري عن إبراهيم عن الأسود عنها وقيل عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عنها وقيل الزهري عن عروة بن الزبير عنها رضي الله عنها.
5. أصح الأسانيد عن سعد بن أبي وقاص: علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.
6. أصح الأسانيد عن ابن مسعود: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة، وقيل سفيان الثوري عن منصرر عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
7. أصح الأسانيد عن أبي هريرة: يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وقيل الزهري عن سعيد بن المسيب، وقيل مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، وقيل حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين، وقيل إسماعيل بن أبي حكيم عن عَبيدة - بفتح العين - بن سفيان الحضرمي، وقيل معمر عن همام عنه رضي الله عنه.
8. أصح الأسانيد عن أم سلمة: شعبة عن قتادة عن سعيد عن عامر أخي أم سلمة عن أم سلمة.
9. أصح الأسانيد عن عبد الله بن عمر بن العاص: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (وفي هذا الإسناد خلاف معروف، والحق أنه من أصح الأسانيد)
10. أصح الأسانيد عن أبي موسى الأشعري: شعبة عن عمرو بن مرة عن أبيه مرة [ ولعمرو شيخ اسمه مرة كذلك هو دون أبيه في العدالة والضبط] عن أبي موسى الأشعري.
11. أصح الأسانيد عن أنس بن مالك: مالك عن الزهري، وقيل سفيان بن عيينة عن الزهري، وقيل معمر عن الزهري، وقيل حماد بن زيد عن ثابت، وقيل حماد بن سلمة عن ثابت، وقيل شعبة عن قتادة وقيل هشام الدستوائي عن قتادة عنه رضي الله عنه.
12. أصح الأسانيد عن ابن عباس : الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
13. أصح الأسانيد عن جابر بن عبد الله: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر.
14. أصح الأسانيد عن عقبة بن عامر: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر.
15. أصح الأسانيد عن بريدة: الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة.
16. أصح الأسانيد عن أبي ذر : سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. [انظر تحقيق أحمد شاكر على ألفية السيوطي المكتبة العلمية (د ت) ص54لاوما بعدها، الباعث الحثيث ص101 وما بعدها، معجم مصطلحات الحديث ص36 وما بعدها...التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (676هـ) تحقيق محمد عثمان الخشت دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ 198م ص25]
متن ألفية السيوطي في الحديث باب الحديث الصحيح:
قال الإمام السيوطي في ألفية الحديث:[ص4 بتحقيق أحمد شاكر المكتبة العلمية]
[باب] الصحيح
14 - حَدُّ الصَّحِيحِ: مُسنَدٌ بِوَصْلِهِ ... بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ
15 - ولَمْ يَكُنْ شَذًّا وَلا مُعَلَّلا ... والحُكْمُ بِالصَّحَةِ وَالضَّعْفِ عَلَى
16 - ظاهِرِهِ، لاالقَطْعِ، إِلاَّ مَاحَوَى ... كِتابُ مُسلِمٍ أَوِ الجُعْفِي سِوَى
17 - ما انْتَقَدُوا فَابْنُ الصَّلاحِ رَجَّحَا ... قَطْعًا بِهِ، وَكَمْ إِمَامٍ جَنَحَا
18 - والنَّوَوِيْ رَجَّحَ فِي التَّقْرِيبِ ... ظَنًّا بِهِ، وَالقَطْعُ ذُو تَصْوِيبِ
19 - وَلَيْسَ شَرْطًا عَدَدٌ، وَمَنْ شَرَطْ ... رِوَايَةَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا غَلَطَ
20 - والوَقْفُ عَنْ حُكْمٍ لِمَتْنٍ أَوْ سَنَدْ ... بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطلَقًا أَسَدْ
21 - وآخَرُونَ حَكَمُوا فاضْطَرَبُوا ... لِفَوقِ عَشْرٍ ضُمِّنَتْهَا الْكُتُبُ
22 - فَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِهْ ... وَزِيدَ مَا لِلشَّافِعِيْ فَأَحْمَدهْ
23 - وَابْنُ شِهابٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أَبِهْ ... عَنْ جَدِّهِ، أَوْ سَالِمٍ عَمَّنْ نَبِهْ
24 - أَوْعَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ حَبْرِ البَشَرْ ... هُوَ ابْنُ عَباسٍ وَهَذَا عَنْ عُمَرْ
25 - وَشُعْبَةٌ عَنْ عَمْرٍو ابْنِ مُرَّهْ ... عَنْ مُرَّةٍ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ كَرَّهْ
26 - أَوْ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَهْ ... إِلَى سَعِيدٍ عَنْ شُيُوخٍ سَادَهْ
27 - ثُمَّ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ الْحَبْرِ الْعَلِي ... عَبِيدَةٍ بِما رَوَاهُ عَنْ عَلِي
28 - كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْرَاهِيمَ عَنْ ... عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسعُودِ الْحَسَنْ
29 - وَوَلَدُ القَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ... عائِشَةٍ، وَقَالَ قَوْمٌ ذُو فِطَنْ
30 - لا يَنْبَغِي التَّعْمِيمُ فِي الإِسْنادِ ... بَلْ خُصَّ بِالصَّحْبِ أَوِ البِلادِ
31 - فَأَرْفَعُ الإِسْنادِ لِلصِّدِّيقِ مَا ... إِبْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ نَمَا
32 - وَعُمَرٍ فَابْنَ شِهابٍ بَدِّهِ ... عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِهِ عَنْ جَدِّهِ
33 - وَأَهْلِ بَيْتِ المُصْطَفَى جَعْفَرُ عَنْ ... آبَائِهِ، إِنْ عَنْهُ رَاوٍ مَا وَهَنْ
34 - وَلأَبِي هُرَيرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ... سَعِيدٍ أوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ
35 - عَنْ أَعْرَجٍ، وَقيلَ: حَمَّادٌ بِمَا ... أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَى
36 - لِمَكَّةٍ سُفْيانُ عَنْ عَمْرٍو، وَذَا ... عَنْ جَابِرٍ، وَلِلمَدِينَةِ خُذا
37 - ابْنَ أَبِي حَكِيمَ عَنْ عَبِيدَةِ ... الحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةِ
38 - وَما رَوَى مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامَ عَنْ ... أَبِي هُرَيرَةَ أَصَحُّ لِلْيَمَنْ
39 - لِلشَّامِ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَا ... عَنِ الصِّحَابِ فَائِقٌ إِتْقَانَا
40 - وَغَيْرُ هَذَا مِنْ تَراجِمٍ تُعَدْ ... ضَمَّنْتُهَا شَرْحِيَ عَنْها لا تُعَدْ
من هو أوّل من جمع الحديث الصحيح ؟
· أوّل من صنّف في الصحيح المجرد هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البُخاري تلاه تلميذه أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري. [ مقدمة ابن الصلاح ص17...، الباعث الحثيث شرح اختصار علو الحديث 1\102...، التقريب والتيسير للنووي ص26]
· والجمهور على تقديم البخاري ومذهب المغاربة وأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم تقديم مسلم، قيل في تعليل تقديم البخاري إنّ أسانيده أصحّ من جهة اشتراطه للملاقاة وثبوت السماع بينما اكتفى مسلم بالمعاصرة. وقيل في تعليل تقديم مسلم أنّ أحاديثه لا تقلّ صحّة عن البخاري وزاد عليه تجريده للصحيح فقط فليس في صلب صحيح مسلم إلاّ الأحاديث المسندة الصحيحة بينما ذكر البخاري في تراجمه أحاديث غير مسندة وهي ما يعرف بمعلقات البخاري، كما فاق مسلمٌ البخاري بحسن التصنيف وبديع التنظيم؛ فهو مثلاً يجمع طرق الحديث كلّها في موضع واحد بينما البخاري طرق الحديث عنده مبعثرة ومتفرقة في كتابه لا يمكن الوقوف عليها جميعها إلاّ بجهد ومشقّة... [المصادر والمراجع المتقدمة]
· عدد أحاديث الصحيحين: قال ابن الصلاح: "وجملة ما في كتابه الصحيح سبعةُ آلاف حديث ومائتان وخمسةٌ وسبعون حديثًا بالأحاديث المتكررة، وقد قيل إنّها بإسقاط المكررة أربعة آلافٍ حديث، ..." [المقدمة 20] وذكر أبو الفضل أحمد بن سلمة أنّ أحاديث مسلم بجميع طرقه اثنا عشر ألفَ حديث وبترك تعداد الطرق أربعة آلاف . [الباعث الحثيث 1\107]
هل استوعب البخاري ومسلم كلّ الصحيح ؟
الصحيحان لم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة الثابتة والواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد تجد في غيرهما من الصحيح الشيء الكثير.
بل إنّ البخاري ومسلم نفسهما لم يلتزما بذلك، فقد رُوي عن البخاري قوله: "ما أدخلتُ في كتابي (الجامع) إلاّ ما صحَّ، وتركتُ مِن الصِّحاح لحالِ الطُّولِ." وعن مسلمٍ قوله: "ليس كلُّ شيءٍ عندي صحيحٌ وضعتُهُ ها هنا إنّما وضعتُ ها هنا ما أجمعوا عليه." [مقدمة ابن الصلاح ص19-20]
وقد عَمَدَ الحاكم في مستدركه إلى تتبع ما فات البخاري ومسلم من الصحيح وأخرجه مبيّنا أنّه صحيح على شرطيهما أو شرط أحدهما، ورغم تساهل الحاكم في التصحيح وفي تحقيق شروط الشيخين إلاّ أنّه يُسلّم في كثير ممّا ذكر.
وفي مسند الإمام أحمد وكتب السنة الأربعة وفي معاجم الطبراني ومسند البزار وأبي يعلى وغيرها من كتب السنة أحاديث صحيحة كثيرة لم تذكر في الصحيحين، بل لقد التزم جماعة من المحدثين بإخراج الصحيح فقط تماما كما فعل البخاري ومسلم منهم ابن خزيمة وابن حبّان ...
حكم معلقات البخاري ومسلم:
قال ابن الصلاح في المقدمة: "مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي كِتَابَيْهِمَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ فَذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِصِحَّتِهِ بِلَا إِشْكَالٍ. وَأَمَّا [الْمُعَلَّقُ وَهُوَ] الَّذِي حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَأِ إِسْنَادِهِ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَأَغْلَبُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ قَلِيلٌ جِدًّا، فَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ." [مقدمة ابن الصلاح ص24]
معلقات مسلم أربعةُ عشرَ حديثا، وصَلَها جميعها في مواضع من صحيحه إلاّ حديثا واحدا في التيمّم. [قاله الألباني، الباعث الحثيث 1\121] وما علّقه البخاري كثير أكثره يوجد في تراجم كتبه وأبوابه، قال الحافظ ابن كثير مبيّنا حكمها: "ما علّقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علّقه عنه، ثمّ النّظر فيما بعد ذلك. [أي إذا كان من ينسب إليه النّص تابعي أو دونه، فإنّ صحّة الحديث متوقف على النظر في سنده من هذا التابعي أو من دونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ] وما كان منها بصيغة التمريض فلا ستفاد منها صحّةٌ، ولا تُنافيها أيضا؛ لأنّه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيحٌ، وربّما رواه مسلم. وما كان من التعليقات صحيحا فليس من نَمَطِ الصحيح المُسْنَدْ فيه؛ لأنّه وَسَمَ كتابه بـــ (الجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه)..." [الباعث الحثيث 1\121-122]
المقصود بصيّغ الجزم نحو قوله: قال، روى، جاء، عن...أما صيّغ التمريض فكقوله: قِيل، ذُكِر، رُوِيَ، يُروى، يُذكر... ونحوها. وقد عُرِف هذا الحكم بالاستقراء بكون الإمام البخاري لعدالته وإمامته ما كان ليجزم بنسبة النّص لأحدٍ إلاّ إذا تيقّن من صحة هذه النسبة.
وللحافظ ابن حجر كتاب (تغليق التعليق) تتبّع معلقات البخاري وحاول وصلها جميعها.
ما حكم قول الإمام البخاري: قال لي فلان ؟
قال ابن كثير: "فأما إذا قال البخاري " قال لنا " أو " قال لي فلان كذا "، أو " زادني " ونحو ذلك، فهو متصل عند الأكثر. وحكي ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه تعليق أيضاً، يذكره للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة. وقد رده ابن الصلاح، فإن الحافظ أبا جعفر بن حمدان قال: إذا قال البخاري " وقال لي فلان " فهو مما سمعه عرضاً ومناولة." [الباعث الحثيث 1\122]
قال ابن حجر [الفتح طبعة دار المعرفة بيروت 1379هـ 1\156] : " استقريتُ كثيرا من المواضيع [المواضع] التي يقول فيها البخاري في (الجامع) "قال لي" فوجدته في غير (الجامع) يقول فيها "حدّثنا"؛ لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم."
وهذا النّص من ابن حجر رحمه الله يرجح ما حكاه ابن الصلاح عن بعض المغاربة في إلحاق هذا النوع من الأحاديث بالمعلقات، وأنّ البخاري رحمه الله إنّما يذكرها للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة.
هل في الصحيحين من الأحاديث المسندة ضعيف ؟
سأذكر في هذه المسألة ثلاثة مذاهب، وهي المذاهب المعتبرة عند علماء أهل السنّة، ولا عبرة بقول الرافضة والخوارج والمستشرقين والعلمانيين في مثل هذه الحلقات التعليمية.
· مذهب من يجزم أنّ كلّ ما في الصحيحين من المسند المتّصل الإسناد صحيح على شرط صاحبيهما. وعلى هذا يحمل كلام الحافظ أَبِي نَصْرٍ الْوَايْلِيِّ السِّجْزِيِّ: " أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ - الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ -[عَلَى] أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَحَّ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَالْمَرْأَةُ بِحَالِهَا فِي حِبَالَتِهِ ". وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ قَوْلِهِ: " لَمْ نَجِدْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ مَنْ أَفْصَحَ لَنَا فِي جَمِيعِ مَا جَمَعَهُ بِالصِّحَّةِ إِلَّا هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ ".
· مذهب من يرى أنّ كلّ ما في الصحيحين من المسند المتّصل الإسناد صحيح لكنّ بعض الأحاديث أخلّت بشرط البخاري ومسلم . وعلى هذا يحمل قدح الإمام الدارقطني في بعض أحاديث الصحيحين قال الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله: "الحقُّ الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، ومن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر؛ أنّ أحاديث الصحيحين صحيحة كلّها، ليس في واحد منها مطعنٌ أو ضعفٌ؛ وإنّما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أنَّ ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كلّ واحدٍ منهما في كتابه، وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها..." [الباعث الحثيث 1\124]
· مذهب من يرى أنه قد وقع في الصحيحين أحاديث ضعيفة لا ترتقي لدرجة الصحة. وهؤلاء يستدلون بالوقوع، منهم ابن حزم الظاهري الذي ضعّف حديث الملاهي والمعازف بعلّة انقطاع سنده وقد ردّ عليه ابن الصلاح وبيّن اتّصاله في مسند أحمد وسنن أبي داود والبرقاني في صحيحه وغيرهم من المحدثين والحفاظ...
كما ضعّف الشيخ اللباني حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرجل يجامع أهله ثمّ يكسل هل عليهما غسل ؟ وعائشة جالسةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه، ثمّ نغتسل" قال: وفيه علتان عنعنة أبي الزبير عن جابر عنها. وعياض بن عبد الله قال ابن حجر: فيه لين. قال الألباني: "ولذا أوردته في سلسلة الأحاديث الضعيفة (976)، ورجّحت فيه أنّه موقوف عليها بسند صحيح" ومن ذلك زيادة "من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" قال الألباني: "فإنّها مدرجة في الصحيحين" [الباعث الحثيث 1\125]
ويبدو والله أعلم أنّ الأحاديث التي ذكرها ابن حزم أو الشيخ الألباني لا تخرج عمّا ذكره الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله...
مراتب الصحّة باعتبار نسبتها للصحيحين:
المرتبة الأولى: ما أخرجه البخاري ومسلم.
المرتبة الثانية: ما أخرجه البخاري.
المرتبة الثالثة: ما أخرجه مسلم.
المرتبة الرابعة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرطيهما.
المرتبة الخامسة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرط البخاري.
المرتبة السادسة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرط مسلم.
المرتبة السابعة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على غير شرطهما. [مقدمة ابن الصلاح ص27]
موطأ الإمام مالك وموقعه من الصحيح:
صحّ عن الإمام الشافعي قوله: "لا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك" [أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1\507) وابن أبي حاتم في آداب الشافعي 195، الباعث الحثيث 1\114] وقد رويت هذه المقالة عنه بألفاظ أخرى كقوله: "ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصحّ من كتاب مالك"
إنّ مقولة الإمام الشافعي رحمه الله يستثنى منها كتابي البخاري ومسلم؛ لأنّه إنّما قالها قبل وجودهما، قال ابن كثير في اختصار علوم الحديث: "" قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: " لا أعلم كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك " ، إنما قاله قبل البخاري ومسلم. وقد كانت كتب كثيرة مصنفة في ذلك الوقت في السنن، لابن جريح، وابن إسحق - غير السيرة - ولأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي، ومصنف عبد الرزاق بن همام، وغير ذلك.
وكان كتاب مالك، وهو " الموطأ " ، أجلها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضها أكبر حجماً منه وأكثر أحاديث." [الباعث الحثيث 1\114-115]
· هل كلّ ما في الموطأ صحيح ؟ قال الإمام السيوطي في مقدمة شرحه على الموطأ (ص8): "الصواب إطلاق أنَّ كلّ ما في الموطأ صحيحٌ لا يستثنى منه شيءٌ" قال أحمد شاكر معلقا على قول السيوطي: "وهذا غيرُ صوابٍ، والحقُّ أنّ ما في الموطّأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صِحاحٌ كلُّها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأنّ ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبرُ فيها ما يعتبر في أمثالها، ممّا تحويه الكتب الأخرى، وإنّما لم يُعدّ في كتب الصِّحاح لكثرتها [يقصد المرسلات والبلاغات ونحوها] وكثرة الآراء الفقهية لمالك وغيره..." [الباعث 1\115] وقد ألّف كلّ من ابن عبد البرّ وابن الصلاح كتبا تصل مقطوعات ومرسلات وبلاغات الموطأ فوصلا أكثرها وبقي بعضها غير موصول كقول مالك بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنّي لأَنسى أو أُنسى لأسن" [الشيخ الألباني في الباعث الحثيث 1\115]
كتبه أخوكم ومحبكم
أبو إسماعيل فتحي بودفلة
20 صفر 1438هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2016م
أوّلا: فوائد متعلقة بالصحيح
ما سبب اختلاف أهل العلم في تصحيح الأحاديث ؟
قال ابن الصلاح: " وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِيهِ، أَوْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي الْمُرْسَلِ." [مقدمة ابن الصلاح بتحقيق نور الدين عتر ص 13]
انطلاقا من نص ابن الصلاح هذا، يمكننا حصر أسباب اختلاف الحفاظ في التصحيح في سببين اثنين :
أوّلهما: اختلافهم في اشتراط بعضها، ومثّل له بالمرسل؛ إذ بعض أهل العلم لا يرى بأسا في إرسال الحديث ولا يعدّه قادحا في صحّته...وأكثر الفقهاء والأصوليين يخالفون أهل الحديث في هذه الشروط، ذكر الزركشي عن أبي الحسن بن الحصار الأندلسي قوله في تقريب المدارك على موطأ مَالك: "إِن للمحدثين أغراضا فِي طريقهم احتاطوا فِيهَا وبالغوا فِي الِاحْتِيَاط وَلَا يلْزم الْفُقَهَاء اتباعهم على ذَلِك كتعليلهم الحَدِيث الْمَرْفُوع بِأَنَّهُ قد رُوِيَ مَوْقُوفا أَو مُرْسلا وكطعنهم فِي الرَّاوِي إِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ أَو بِزِيَادَة فِيهِ أَو لمُخَالفَة من هُوَ أعدل مِنْهُ وأحفظ..." قَالَ: "وَقد يعلم الْفَقِيه صِحَة الحَدِيث بموافقة الْأُصُول أَو آيَة من كتاب الله تَعَالَى فيحمله ذَلِك على قبُول الحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ واعتقاد صِحَّته وَإِذا لم يكن فِي سَنَده كَذَّاب فَلَا بَأْس بِإِطْلَاق القَوْل بِصِحَّتِهِ إِذا وَافق كتاب الله تَعَالَى وَسَائِر أصُول الشَّرِيعَة..."
وقد استغرب ابن عبد البرّ تصحيح البخاري لحديث أبي هريرة رضي الله عنه "هو الطهور ماءه الحلّ ميتته" رغم مخالفته لأصول أهل الحديث ورجح ابن الحصار أنّه في خصوص هذا الصنيع قد أخذ بمذهب الفقهاء في التصحيح قال ابن عبد البر : " وَمَا أَدْرِي مَا هَذَا من البُخَارِيّ وَأهل الحَدِيث لَا يحتجون بِمثل إِسْنَاده وَلَكِن الحَدِيث عِنْدِي صَحِيح من جِهَة أَن الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ" قَالَ ابْن الْحصار: "وَلَعَلَّ البُخَارِيّ رأى رَأْي الْفُقَهَاء" اهـ
[النكت على ابن الصلاح للزركشي (794هـ) تحقيق زين العابدين بن محمد بلا فريج. اضواء السلف الرياض الطبعة الأولى 1419هـ 1998م 1\106-107-108]
ومثال آخر ها هنا اشتراط عدم الشذوذ، قال الزركشي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح: " وَالتَّحْقِيق أَن الشاذ الَّذِي يُخَالف الصَّحِيح هُوَ الشاذ الْمُنكر أَو الَّذِي لم ينجبر شذوذه بِشَيْء من الْأُمُور الْمَذْكُورَة فِي انجبار الْمُعَلل والشاذ" [ النكت للزركشي 1\115]
ثانيهما: تحقّق هذه الشروط، فقد قد يعدّ الناقد راوٍ من الرواة غاية في الضبط ويعدّه أخر خفيف الضبط، ومثل ذلك يقال في عدالة الرواة، وفي اتّصال السند... [انظر: مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني (805هـ) تحقيق عائشة بنت الشاطئ دار المعارف القاهرة (د ت) ص152]
ما هو الفرق بين قولهم حديث صحيح وإسناد صحيح ؟
· إنّ تصحيح الإسناد لا يقتضي تصحيح الحديث باعتبار الحديث متكوّنٌ من سند ومتن وصحّته متوقفة على صحّة جزئيه كليهما. فقد يكون الحديث صحيح الإسناد ضعيف المتن بسبب شذوذه أو اضطرابه أو إدراجه أو تصحيفه ونحو ذلك.
· ويرى الزركشي أنّ صحة الإسناد إنّما تكون من جهة اتّصاله، وصحّة الحديث تتمثل في اتّصال السند إضافة إلى باقي الشروط المذكورة في تعريف الحديث الصحيح. [النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي 1\119-120]
أصحّ الأسانيد:
[معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم (405هـ) تحقيق السيد معظم حسين دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثانية 1397هـ 1977م ص53 وما بعدها، مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني (805هـ) تحقيق عائشة بنت الشاطئ دار المعارف القاهرة (د ت) 152 وما بعدها...، معجم مصطلحات الحديث 36، الباعث الحثيث 1\101]
لأنّ شروط الصحة التي تقدّم ذكرها تتفاوت - قوةً وتواجداً وتمكّنا - من سند لآخر، تفاوتت هذه الأسانيد من حيث القوة والصحة؛ فكلّما كانت هذه الشروط أبين وأظهر وأمكن كانت الأسانيد أقوى وأصحّ.
وقد اختلف نظر المحدثين واجتهاداتهم في تحديد أقوى الأسانيد وأصحّها، وسأذكر ها هنا جملة من هذه الأسانيد التي وصفت بكونها الأقوى والأصحّ:
- اختيار أحمد وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي: الزهري عن سالم عن أبيه عبدِ الله بنِ عمر رضي الله عنهما.
- اختيار عليُّ بنُ المديني: ابن عون عن محمد بن سيرين عن عَبيدة عن علي رضي الله عنه.
- اختيار أبي بكر بن شيبة: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنهما.
- اختيار يحيى بن معين: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه.
- اختيار البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وزاد بعضهم أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر.
- اختيار سليمان بن داود: يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة
- قال البخاري: أصحّ الأسانيد عن أبي هريرة رضي الله عنه ما رواه أبي الزناد عن الأعرج عنه.
والذي رجّحه أحمد شاكر وهو ظاهر صنيع الحاكم أنّ إطلاق حكم أصحّ الأسانيد هكذا فيه كثير من المجازفة، وهو حكم عام مطاط ومبهم لا يمكن ضبطه إلاّ بشيء من التحديد والتقييد كأن ينسب إلى صحابي أو بلد أو إمام فيقال:
1. أصحّ الأسانيد عن أبي بكر رضي الله عنه: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه.
2. أصح الأسانيد عن عمر: الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه، وقيل: الزهري عن السائب بن يزيد. وقيل: ما رواه عنه ابنه عنه رضي الله عنهما، واختلفوا في أصحّ الأسانيد عن عبد الله بن عمر فقيل: مالك عن نافع عن ابن عمر، اختاره البخاري كما تقدّم والزهري عن سالم عن أبيه، اختاره أحمد، وقيل: أيوب عن نافع عن ابن عمر، وقيل: يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.
3. أصح الأسانيد عن علي: تقدم ذكر بعضها، وقيل أصحّها ما رواه يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي، وقيل أصحّ أسانيد أهل البيت ما رواه الثِقاة عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي.
4. أصح الأسانيد عن عائشة : هشام بن عروة عن أبيه عنها وقيل أفلح بن حميد عن القاسم عنها، وقيل سفيان الثوري عن إبراهيم عن الأسود عنها وقيل عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عنها وقيل الزهري عن عروة بن الزبير عنها رضي الله عنها.
5. أصح الأسانيد عن سعد بن أبي وقاص: علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.
6. أصح الأسانيد عن ابن مسعود: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة، وقيل سفيان الثوري عن منصرر عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
7. أصح الأسانيد عن أبي هريرة: يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وقيل الزهري عن سعيد بن المسيب، وقيل مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، وقيل حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين، وقيل إسماعيل بن أبي حكيم عن عَبيدة - بفتح العين - بن سفيان الحضرمي، وقيل معمر عن همام عنه رضي الله عنه.
8. أصح الأسانيد عن أم سلمة: شعبة عن قتادة عن سعيد عن عامر أخي أم سلمة عن أم سلمة.
9. أصح الأسانيد عن عبد الله بن عمر بن العاص: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (وفي هذا الإسناد خلاف معروف، والحق أنه من أصح الأسانيد)
10. أصح الأسانيد عن أبي موسى الأشعري: شعبة عن عمرو بن مرة عن أبيه مرة [ ولعمرو شيخ اسمه مرة كذلك هو دون أبيه في العدالة والضبط] عن أبي موسى الأشعري.
11. أصح الأسانيد عن أنس بن مالك: مالك عن الزهري، وقيل سفيان بن عيينة عن الزهري، وقيل معمر عن الزهري، وقيل حماد بن زيد عن ثابت، وقيل حماد بن سلمة عن ثابت، وقيل شعبة عن قتادة وقيل هشام الدستوائي عن قتادة عنه رضي الله عنه.
12. أصح الأسانيد عن ابن عباس : الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
13. أصح الأسانيد عن جابر بن عبد الله: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر.
14. أصح الأسانيد عن عقبة بن عامر: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر.
15. أصح الأسانيد عن بريدة: الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة.
16. أصح الأسانيد عن أبي ذر : سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. [انظر تحقيق أحمد شاكر على ألفية السيوطي المكتبة العلمية (د ت) ص54لاوما بعدها، الباعث الحثيث ص101 وما بعدها، معجم مصطلحات الحديث ص36 وما بعدها...التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (676هـ) تحقيق محمد عثمان الخشت دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ 198م ص25]
متن ألفية السيوطي في الحديث باب الحديث الصحيح:
قال الإمام السيوطي في ألفية الحديث:[ص4 بتحقيق أحمد شاكر المكتبة العلمية]
[باب] الصحيح
14 - حَدُّ الصَّحِيحِ: مُسنَدٌ بِوَصْلِهِ ... بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ
15 - ولَمْ يَكُنْ شَذًّا وَلا مُعَلَّلا ... والحُكْمُ بِالصَّحَةِ وَالضَّعْفِ عَلَى
16 - ظاهِرِهِ، لاالقَطْعِ، إِلاَّ مَاحَوَى ... كِتابُ مُسلِمٍ أَوِ الجُعْفِي سِوَى
17 - ما انْتَقَدُوا فَابْنُ الصَّلاحِ رَجَّحَا ... قَطْعًا بِهِ، وَكَمْ إِمَامٍ جَنَحَا
18 - والنَّوَوِيْ رَجَّحَ فِي التَّقْرِيبِ ... ظَنًّا بِهِ، وَالقَطْعُ ذُو تَصْوِيبِ
19 - وَلَيْسَ شَرْطًا عَدَدٌ، وَمَنْ شَرَطْ ... رِوَايَةَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا غَلَطَ
20 - والوَقْفُ عَنْ حُكْمٍ لِمَتْنٍ أَوْ سَنَدْ ... بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطلَقًا أَسَدْ
21 - وآخَرُونَ حَكَمُوا فاضْطَرَبُوا ... لِفَوقِ عَشْرٍ ضُمِّنَتْهَا الْكُتُبُ
22 - فَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِهْ ... وَزِيدَ مَا لِلشَّافِعِيْ فَأَحْمَدهْ
23 - وَابْنُ شِهابٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أَبِهْ ... عَنْ جَدِّهِ، أَوْ سَالِمٍ عَمَّنْ نَبِهْ
24 - أَوْعَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ حَبْرِ البَشَرْ ... هُوَ ابْنُ عَباسٍ وَهَذَا عَنْ عُمَرْ
25 - وَشُعْبَةٌ عَنْ عَمْرٍو ابْنِ مُرَّهْ ... عَنْ مُرَّةٍ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ كَرَّهْ
26 - أَوْ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَهْ ... إِلَى سَعِيدٍ عَنْ شُيُوخٍ سَادَهْ
27 - ثُمَّ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ الْحَبْرِ الْعَلِي ... عَبِيدَةٍ بِما رَوَاهُ عَنْ عَلِي
28 - كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْرَاهِيمَ عَنْ ... عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسعُودِ الْحَسَنْ
29 - وَوَلَدُ القَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ... عائِشَةٍ، وَقَالَ قَوْمٌ ذُو فِطَنْ
30 - لا يَنْبَغِي التَّعْمِيمُ فِي الإِسْنادِ ... بَلْ خُصَّ بِالصَّحْبِ أَوِ البِلادِ
31 - فَأَرْفَعُ الإِسْنادِ لِلصِّدِّيقِ مَا ... إِبْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ نَمَا
32 - وَعُمَرٍ فَابْنَ شِهابٍ بَدِّهِ ... عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِهِ عَنْ جَدِّهِ
33 - وَأَهْلِ بَيْتِ المُصْطَفَى جَعْفَرُ عَنْ ... آبَائِهِ، إِنْ عَنْهُ رَاوٍ مَا وَهَنْ
34 - وَلأَبِي هُرَيرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ... سَعِيدٍ أوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ
35 - عَنْ أَعْرَجٍ، وَقيلَ: حَمَّادٌ بِمَا ... أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَى
36 - لِمَكَّةٍ سُفْيانُ عَنْ عَمْرٍو، وَذَا ... عَنْ جَابِرٍ، وَلِلمَدِينَةِ خُذا
37 - ابْنَ أَبِي حَكِيمَ عَنْ عَبِيدَةِ ... الحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةِ
38 - وَما رَوَى مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامَ عَنْ ... أَبِي هُرَيرَةَ أَصَحُّ لِلْيَمَنْ
39 - لِلشَّامِ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَا ... عَنِ الصِّحَابِ فَائِقٌ إِتْقَانَا
40 - وَغَيْرُ هَذَا مِنْ تَراجِمٍ تُعَدْ ... ضَمَّنْتُهَا شَرْحِيَ عَنْها لا تُعَدْ
من هو أوّل من جمع الحديث الصحيح ؟
· أوّل من صنّف في الصحيح المجرد هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البُخاري تلاه تلميذه أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري. [ مقدمة ابن الصلاح ص17...، الباعث الحثيث شرح اختصار علو الحديث 1\102...، التقريب والتيسير للنووي ص26]
· والجمهور على تقديم البخاري ومذهب المغاربة وأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم تقديم مسلم، قيل في تعليل تقديم البخاري إنّ أسانيده أصحّ من جهة اشتراطه للملاقاة وثبوت السماع بينما اكتفى مسلم بالمعاصرة. وقيل في تعليل تقديم مسلم أنّ أحاديثه لا تقلّ صحّة عن البخاري وزاد عليه تجريده للصحيح فقط فليس في صلب صحيح مسلم إلاّ الأحاديث المسندة الصحيحة بينما ذكر البخاري في تراجمه أحاديث غير مسندة وهي ما يعرف بمعلقات البخاري، كما فاق مسلمٌ البخاري بحسن التصنيف وبديع التنظيم؛ فهو مثلاً يجمع طرق الحديث كلّها في موضع واحد بينما البخاري طرق الحديث عنده مبعثرة ومتفرقة في كتابه لا يمكن الوقوف عليها جميعها إلاّ بجهد ومشقّة... [المصادر والمراجع المتقدمة]
· عدد أحاديث الصحيحين: قال ابن الصلاح: "وجملة ما في كتابه الصحيح سبعةُ آلاف حديث ومائتان وخمسةٌ وسبعون حديثًا بالأحاديث المتكررة، وقد قيل إنّها بإسقاط المكررة أربعة آلافٍ حديث، ..." [المقدمة 20] وذكر أبو الفضل أحمد بن سلمة أنّ أحاديث مسلم بجميع طرقه اثنا عشر ألفَ حديث وبترك تعداد الطرق أربعة آلاف . [الباعث الحثيث 1\107]
هل استوعب البخاري ومسلم كلّ الصحيح ؟
الصحيحان لم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة الثابتة والواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد تجد في غيرهما من الصحيح الشيء الكثير.
بل إنّ البخاري ومسلم نفسهما لم يلتزما بذلك، فقد رُوي عن البخاري قوله: "ما أدخلتُ في كتابي (الجامع) إلاّ ما صحَّ، وتركتُ مِن الصِّحاح لحالِ الطُّولِ." وعن مسلمٍ قوله: "ليس كلُّ شيءٍ عندي صحيحٌ وضعتُهُ ها هنا إنّما وضعتُ ها هنا ما أجمعوا عليه." [مقدمة ابن الصلاح ص19-20]
وقد عَمَدَ الحاكم في مستدركه إلى تتبع ما فات البخاري ومسلم من الصحيح وأخرجه مبيّنا أنّه صحيح على شرطيهما أو شرط أحدهما، ورغم تساهل الحاكم في التصحيح وفي تحقيق شروط الشيخين إلاّ أنّه يُسلّم في كثير ممّا ذكر.
وفي مسند الإمام أحمد وكتب السنة الأربعة وفي معاجم الطبراني ومسند البزار وأبي يعلى وغيرها من كتب السنة أحاديث صحيحة كثيرة لم تذكر في الصحيحين، بل لقد التزم جماعة من المحدثين بإخراج الصحيح فقط تماما كما فعل البخاري ومسلم منهم ابن خزيمة وابن حبّان ...
حكم معلقات البخاري ومسلم:
قال ابن الصلاح في المقدمة: "مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي كِتَابَيْهِمَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ فَذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِصِحَّتِهِ بِلَا إِشْكَالٍ. وَأَمَّا [الْمُعَلَّقُ وَهُوَ] الَّذِي حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَأِ إِسْنَادِهِ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَأَغْلَبُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ قَلِيلٌ جِدًّا، فَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ." [مقدمة ابن الصلاح ص24]
معلقات مسلم أربعةُ عشرَ حديثا، وصَلَها جميعها في مواضع من صحيحه إلاّ حديثا واحدا في التيمّم. [قاله الألباني، الباعث الحثيث 1\121] وما علّقه البخاري كثير أكثره يوجد في تراجم كتبه وأبوابه، قال الحافظ ابن كثير مبيّنا حكمها: "ما علّقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علّقه عنه، ثمّ النّظر فيما بعد ذلك. [أي إذا كان من ينسب إليه النّص تابعي أو دونه، فإنّ صحّة الحديث متوقف على النظر في سنده من هذا التابعي أو من دونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ] وما كان منها بصيغة التمريض فلا ستفاد منها صحّةٌ، ولا تُنافيها أيضا؛ لأنّه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيحٌ، وربّما رواه مسلم. وما كان من التعليقات صحيحا فليس من نَمَطِ الصحيح المُسْنَدْ فيه؛ لأنّه وَسَمَ كتابه بـــ (الجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه)..." [الباعث الحثيث 1\121-122]
المقصود بصيّغ الجزم نحو قوله: قال، روى، جاء، عن...أما صيّغ التمريض فكقوله: قِيل، ذُكِر، رُوِيَ، يُروى، يُذكر... ونحوها. وقد عُرِف هذا الحكم بالاستقراء بكون الإمام البخاري لعدالته وإمامته ما كان ليجزم بنسبة النّص لأحدٍ إلاّ إذا تيقّن من صحة هذه النسبة.
وللحافظ ابن حجر كتاب (تغليق التعليق) تتبّع معلقات البخاري وحاول وصلها جميعها.
ما حكم قول الإمام البخاري: قال لي فلان ؟
قال ابن كثير: "فأما إذا قال البخاري " قال لنا " أو " قال لي فلان كذا "، أو " زادني " ونحو ذلك، فهو متصل عند الأكثر. وحكي ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه تعليق أيضاً، يذكره للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة. وقد رده ابن الصلاح، فإن الحافظ أبا جعفر بن حمدان قال: إذا قال البخاري " وقال لي فلان " فهو مما سمعه عرضاً ومناولة." [الباعث الحثيث 1\122]
قال ابن حجر [الفتح طبعة دار المعرفة بيروت 1379هـ 1\156] : " استقريتُ كثيرا من المواضيع [المواضع] التي يقول فيها البخاري في (الجامع) "قال لي" فوجدته في غير (الجامع) يقول فيها "حدّثنا"؛ لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم."
وهذا النّص من ابن حجر رحمه الله يرجح ما حكاه ابن الصلاح عن بعض المغاربة في إلحاق هذا النوع من الأحاديث بالمعلقات، وأنّ البخاري رحمه الله إنّما يذكرها للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة.
هل في الصحيحين من الأحاديث المسندة ضعيف ؟
سأذكر في هذه المسألة ثلاثة مذاهب، وهي المذاهب المعتبرة عند علماء أهل السنّة، ولا عبرة بقول الرافضة والخوارج والمستشرقين والعلمانيين في مثل هذه الحلقات التعليمية.
· مذهب من يجزم أنّ كلّ ما في الصحيحين من المسند المتّصل الإسناد صحيح على شرط صاحبيهما. وعلى هذا يحمل كلام الحافظ أَبِي نَصْرٍ الْوَايْلِيِّ السِّجْزِيِّ: " أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ - الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ -[عَلَى] أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَحَّ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَالْمَرْأَةُ بِحَالِهَا فِي حِبَالَتِهِ ". وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ قَوْلِهِ: " لَمْ نَجِدْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ مَنْ أَفْصَحَ لَنَا فِي جَمِيعِ مَا جَمَعَهُ بِالصِّحَّةِ إِلَّا هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ ".
· مذهب من يرى أنّ كلّ ما في الصحيحين من المسند المتّصل الإسناد صحيح لكنّ بعض الأحاديث أخلّت بشرط البخاري ومسلم . وعلى هذا يحمل قدح الإمام الدارقطني في بعض أحاديث الصحيحين قال الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله: "الحقُّ الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، ومن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر؛ أنّ أحاديث الصحيحين صحيحة كلّها، ليس في واحد منها مطعنٌ أو ضعفٌ؛ وإنّما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أنَّ ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كلّ واحدٍ منهما في كتابه، وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها..." [الباعث الحثيث 1\124]
· مذهب من يرى أنه قد وقع في الصحيحين أحاديث ضعيفة لا ترتقي لدرجة الصحة. وهؤلاء يستدلون بالوقوع، منهم ابن حزم الظاهري الذي ضعّف حديث الملاهي والمعازف بعلّة انقطاع سنده وقد ردّ عليه ابن الصلاح وبيّن اتّصاله في مسند أحمد وسنن أبي داود والبرقاني في صحيحه وغيرهم من المحدثين والحفاظ...
كما ضعّف الشيخ اللباني حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرجل يجامع أهله ثمّ يكسل هل عليهما غسل ؟ وعائشة جالسةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه، ثمّ نغتسل" قال: وفيه علتان عنعنة أبي الزبير عن جابر عنها. وعياض بن عبد الله قال ابن حجر: فيه لين. قال الألباني: "ولذا أوردته في سلسلة الأحاديث الضعيفة (976)، ورجّحت فيه أنّه موقوف عليها بسند صحيح" ومن ذلك زيادة "من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" قال الألباني: "فإنّها مدرجة في الصحيحين" [الباعث الحثيث 1\125]
ويبدو والله أعلم أنّ الأحاديث التي ذكرها ابن حزم أو الشيخ الألباني لا تخرج عمّا ذكره الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله...
مراتب الصحّة باعتبار نسبتها للصحيحين:
المرتبة الأولى: ما أخرجه البخاري ومسلم.
المرتبة الثانية: ما أخرجه البخاري.
المرتبة الثالثة: ما أخرجه مسلم.
المرتبة الرابعة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرطيهما.
المرتبة الخامسة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرط البخاري.
المرتبة السادسة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على شرط مسلم.
المرتبة السابعة: ما أخرجه غيرهما ممّا ليس فيهما وكان على غير شرطهما. [مقدمة ابن الصلاح ص27]
موطأ الإمام مالك وموقعه من الصحيح:
صحّ عن الإمام الشافعي قوله: "لا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك" [أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1\507) وابن أبي حاتم في آداب الشافعي 195، الباعث الحثيث 1\114] وقد رويت هذه المقالة عنه بألفاظ أخرى كقوله: "ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصحّ من كتاب مالك"
إنّ مقولة الإمام الشافعي رحمه الله يستثنى منها كتابي البخاري ومسلم؛ لأنّه إنّما قالها قبل وجودهما، قال ابن كثير في اختصار علوم الحديث: "" قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: " لا أعلم كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك " ، إنما قاله قبل البخاري ومسلم. وقد كانت كتب كثيرة مصنفة في ذلك الوقت في السنن، لابن جريح، وابن إسحق - غير السيرة - ولأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي، ومصنف عبد الرزاق بن همام، وغير ذلك.
وكان كتاب مالك، وهو " الموطأ " ، أجلها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضها أكبر حجماً منه وأكثر أحاديث." [الباعث الحثيث 1\114-115]
· هل كلّ ما في الموطأ صحيح ؟ قال الإمام السيوطي في مقدمة شرحه على الموطأ (ص8): "الصواب إطلاق أنَّ كلّ ما في الموطأ صحيحٌ لا يستثنى منه شيءٌ" قال أحمد شاكر معلقا على قول السيوطي: "وهذا غيرُ صوابٍ، والحقُّ أنّ ما في الموطّأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صِحاحٌ كلُّها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأنّ ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبرُ فيها ما يعتبر في أمثالها، ممّا تحويه الكتب الأخرى، وإنّما لم يُعدّ في كتب الصِّحاح لكثرتها [يقصد المرسلات والبلاغات ونحوها] وكثرة الآراء الفقهية لمالك وغيره..." [الباعث 1\115] وقد ألّف كلّ من ابن عبد البرّ وابن الصلاح كتبا تصل مقطوعات ومرسلات وبلاغات الموطأ فوصلا أكثرها وبقي بعضها غير موصول كقول مالك بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنّي لأَنسى أو أُنسى لأسن" [الشيخ الألباني في الباعث الحثيث 1\115]
كتبه أخوكم ومحبكم
أبو إسماعيل فتحي بودفلة
20 صفر 1438هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2016م