أبو زارع المدني
Member
- إنضم
- 28/10/2007
- المشاركات
- 564
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 18
- الإقامة
- المملكة العربية
- الموقع الالكتروني
- www.ahlalhdeeth.com
.
بسم الله الرحمن الرحيم
(مهارة الحفظ في تراثنا)
بقلم/ أ. د. رياض بن حسن الخوام
جامعة أم القرى
الحمد لله على كثرة آلائه، والصلاة والسلام على سيد أنبيائه، محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله و أصحابه، وأتباعه وأوفيائه، وبعد:
بقلم/ أ. د. رياض بن حسن الخوام
جامعة أم القرى
الحمد لله على كثرة آلائه، والصلاة والسلام على سيد أنبيائه، محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله و أصحابه، وأتباعه وأوفيائه، وبعد:
فلعلي لا أكون بعيداً عن الحقيقة ولا مجانباً للصواب، إن زعمت أن مهارة الحفظ هي من أرقى المهارات التي تجب العناية بها، لأنها تاج البراعات، فهي في سلم درجات الوصول إلى العلم تأتي في قممها، قال ابن المبارك:
"أولُ العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العلم ثم الحفظ ثم النشر" ([1]) وإنما جاءت مرتبتها في القمة، لأن العلم هو ما خزنته الصدور لا ما خزنته الدفاتر ([2]).
ليس بعلمٍ ما حوى القِمطرُ *** ما العلمُ إلا ما حواه الصدرُ
لقد أدرك أسلافنا رحمهم الله تعالى قيمة هذه المهارة، (لأنها العلم كله)، فأرهقوا لتحصيلها أجسامهم، وقضوا لتزكيتها أعمارهم، وأشغلوا لتثبيتها أوقاتهم، ووفقهم الله في مسعاهم، حتى صارت علوم الحضارة الإسلامية كلها في صدورهم وعقولهم، وها هي آثارها الآن حاضرة متجسدة فيما خلفوه لنا من تآليف وتصانيف، يعجز العادُّ عن عدها، وتقصر فيما أحسب حواسب الحاسبين والحاسبات عن حصرها، رحمهم الله تعالى.
- فما حقيقة هذه المهارة ؟
-وما وسائل هذه البراعة ؟
-وما مظاهرها عند حذاقها وصناعها ؟
-وكيف سار القوم في حفظها وتثبيتها ؟
-وهل من سبيل إلى الرجوع إليها ؟
هذا ما أردت بيانه في هذا البحث الموجز
وبالله التوفيق
ـــــــ ،،، ـــــــ
الحفظ لغة واصطلاحاً: أجمعت المعاجم اللغوية على أن (الحفظ) يقابل الضياع، فهو مصدر حَفِظَ، يَحْفَظُ، حِفْظاً، كعلِمَ..
يقال: حفِظ المال، أي رعاه وحرسه ومنعه من الضياع والتلف وصانه عن الابتذال ([3]).
ويقال: حفظ القرآن إذا وعاهُ على ظهر قلبه ([4]).
ويقال: تحفَّظتُ الكتاب أي استظهرته شيئاً فشيئاً، وحَفّظته الكتاب، أي حملتُه على حفظه، واستحفظته أي سألته أن يحفظه ([5]).
ويقال: أيضاً رجلٌ حافظ لدينه وأمانته ويمينه وحفيظ، والجمع حَفَظَة وحُفَّاظ مثل كافر في جمعيهِ ([6]).
والحفظة: هم الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم ([7]).
والحِفْظ: التيقظ وقلة الغفلة، يقال: قد أحفظته فاحتفظ، أي أغضبته فغضب، والحفيظة: الغضب والحمَّية ([8]).
والمستفاد مما قدمته المعاجم عن هذه المادة واشتقاقاتها ما يأتي:
1- أن دلالة هذه المعاني كلها تعود إلى أن الحفظ هو عدم الضياع أو التلف أو الابتذال، والأمر ظاهرٌ في كل ما ذكرناه إلا الدلالة على الغضب، فبالتأمل نلحظ أن هناك صلةً بين الضياع والابتذال والغضب، فالغاضب إنما يغضب ليحافظ على حقيقته ونفسه من الضياع والابتذال.
2- أن هذا الحفظ قائم على إرادة الاستمرار والديمومة كما هو الحال حين أطلقوا على الملائكة الكاتبين أنهم حفظة لتسجيلهم أعمال الناس إلى يوم القيامة.
3- أن دلالة الحفظ ظهرت واضحة في البيئة الدينية، فالرجل الحافظ هو الحافظ لدينه وأمانته ويمينه، وحفظ القرآن إذا وعاه عن ظهر قلب.
4- أن العربية نشطت في توليد اشتقاقات من هذه المادة، تصور الواقع الذي اتضحت منه ظاهرة الحفظ، فهناك عبارات تتعلق ابتداءً بحفظ النصوص، نحو:
(تحفَّظت الكتاب) أي: استظهرته شيئا فشيئاً، وما أحسنَ قولهم: (شيئاً فشيئاً) لما فيها من دلالة تشير إلى وسيلة من وسائل الحفظ، فبالتدريج والتكرار تُكتسب هذه المهارة وتظهر هذه البراعة.
5- أن الحفظ عندهم هو الحفظ مع الفهم، بدليل قول الفيومي:
"حَفِظَ القرآن إذا وعاه عَلَى ظَهْرِ قَلْبِهِ" أي: فهمه ووقف على معانيه.
- أما في الاصطلاح: فلم نظفر على مصطلح محدد للحفظ، ولعلنا لا نبعد عن الصواب إن قلنا:
إن الحفظ المراد هنا هو حفظ نصٍّ ما عن ظهر قلب ووعيه لاستظهاره دائماً لاكتمال العلم فيه، ولعل هذا التعريف ينطبق على تفسير هذه المهارة التي برزت في سماء ثقافتنا العربية الإسلامية.
وأحسب أنه لابد أيضا لفهم الظاهرة من أن نعرض لمعنى النسيان الذي هو ضد الحفظ، فهو مصدر الفعل نسِي الشيء نسياً كرمى رمياً، ونِسياناً ونِساية ونساوة بكسر النون فيهن والنّسي بالكسر ويفتح ما نُسي، والنَّسي للكثير النسيان بالكسر والفتح ([9])، وبين الفيومي أن النسيان مشترك بين معنيين:
- أحدهما: ترك الشيء على ذهول وغفلة، وذلك خلاف الذكر له.
- والثاني: الترك على تعمد وعليه قوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي لا تقصدوا الترك والإهمال.
وأضاف قائلاً إن هذا الفعل يتعدى بالهمز والتضعيف ([10]).
وفرق أصحاب المعجم الوجيز بين الفتح والكسر بأن الفتحة للكثير الغفلة والنسيان، أما الكسر فهو فقدان مؤقت لما حفظه الذهن من صور وأفكار وكلام ([11]).
والواضح من هذا كله أن النسيان سواء أكان بفتح النون أم بكسرها هو ضد الحفظ، وهذا الضد أي النسيان تنوع إلى نوعين، فهو إما عن ذهول وغفلة، وإما عن قصد وعمد.
ـــــــ ،،، ـــــــ
أسباب نشوء مهارة الحفظ وانتشارها:
ترجع هذه المهارة إلى عاملين:أسباب نشوء مهارة الحفظ وانتشارها:
الأول: تلك الموهبة التي يمنحها الله بعضَ عباده.
والثانية: الهمة العالية التي قد تتحقق عند شخص ما فتدفعه إلى القيام بأسباب عناية هذه الموهبة، وتنمية هذه البذرة حتى تصير شجرة مثمرة يانعة.
وقد أشار العلماء القدماء إلى هذين العاملين حين تحدثوا عن العقل وحقيقته، قال الأبشيهي:
واعلم أن العقل ينقسم إلى قسمين:
قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما.
فأما الأول: فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء.
وأما الثاني: فهو العقل التجريبي وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع. ([12])
ولذا فهذه المهارة أصلها موهبة من الله تتجلى في حدة الذكاء وفطانة القلب، ثم تنمو بالمران والممارسة فتصير بذلك مهارة من أرقى المهارات، وأمرها كأمر رياضة الأعضاء، فبالرياضة المتكررة يقوى الجسم ويكتمل.
أما انتشار هذه المهارة وتحققها عند العرب المسلمين فلها عدد من الأسباب، إضافة إلى العاملين اللذين ذكرناهما من قبل، هذه الأسباب هي:
1- أن العرب في الأصل أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، فليس أمامهم إلا الاعتماد على الحفظ، وقد وهبهم الله هذه المنحة وفضلهم بهذه الخِصِّيصة، وهذا الأمر بين واضح.
2- رغبة بعض الموهوبين أن يكونوا شعراء، والمعلوم أن الشاعر لابد له في الأصل من موهبة يردفها مخزون لغوي شعري، وحينئذٍ عليه أن يحفظ الكثير من الشعر ليكوِّنَ مخزوناً لغوياً منمقاً بتفاعيل وموسيقى راتبة، فيختمر هذا المخزون ثم يجيش الصدر بها لحدثٍ ما، فينفجر ينبوع الشعر وينسكب، قال أبو نواس مشيراً إلى ذلك:
"ما قلت الشعرَ حتى رويت لستين امرأةً منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال" ([13]).
وكان أبو تمام الطائي الشاعر المشهور يحفظ أربعة آلاف أرجوزة غير القصائد والمقاطيع ([14]).
ولقد أشار ابن خلدون إلى فائدة هذا الحفظ فبين أنه يُنتج الأساليب اللغوية الراقية، لأن كثرة المحفوظ تؤدي إلى محاكاة هذا المحفوظ، قال:
"ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن الكريم والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم". ([15])
3- أن هناك حثاً على رواية الشعر، ورواية الشعر لا شك تستلزم حفظ ما يراد حفظه، الأمر الذي يدعم هذه المهارة ويقويها وما أكثر الأقوال التي تحث على رواية الشعر وترغب فيه، قالت عائشة رضي الله عنها:
"رَوّوا أولادكم الشعر تعذبْ ألسنتهم" ([16]).
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه:
"أُرووا الشعرَ فإنه يدلُّ على محاسن الأخلاق وينفي مساويها" ([17]).
وتحدث ابن رشيق القيرواني عن فائدة رواية الأشعار، التي قد تكون سبباً في اتجاه الشعراء والعلماء إلى الحفظ قال:
"فقد وجدنا الشاعرَ من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر ومعرفة الأخبار، أنه إذا كان راوية عرفَ المقاصد، وسهلَ عليه مآخذ الكلام، ولم يضق به المذهبُ، وإذا كان مطبوعاً لا علم له ولا رواية، ضلَّ واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلبَ المعنى لم يصل إليه وهو ماثل بين يديه، لضعف آلته، كالمُقعد يجد في نفسه القوة على النهوض، فلا تعينه الآلة" ([18]).
ومن القصص الدالة على ترغيبهم في حفظ الشعر وروايته أن زياد بن عبد الله وفدَ على معاوية فقال له:
"أقرأتَ القرآن ؟.
قال: نعم.
قال: أقرضتَ القريضَ ؟.
قال: نعم.
قال: أَرويت الشعرَ ؟.
قال: لا.
فكتب إلى عبدالله: أبا زياد بارك الله لك في ابنك فاروه الشعرَ فقد وجدته كاملاً" ([19])، فالظاهر من هذا كله أن رواية الشعر كانت سبباً من أسباب اتساع ظاهرة الحفظ وتأكيدها.
4- لعل إكرام الخلفاء والسلاطين للأئمة المشهورين من الحفظة كان سبباً من أسباب انتشار هذه المهارة، فهاهي قصة حماد الراوية الديلمي الكوفي المتوفى سنة 155هـ مع الوليد بن يزيدِ الأموي تفيد ذلك، قال له الوليد:
"لِمَ سُمِّيتَ الراوية ؟.
قال: لأني أَروي لكل شاعر سمعتُ به أو لم أسمعْ، وأُميز بين قديمها وحديثها.
قال له: كم تحفظُ من الشعر ؟.
قال: كثير، لكني أُنشدُ على كل حرف مئةَ قصيدة سوى المقطعات من شعر الجاهلية، دون الإسلام فامتحنه في ذلك فوجده كما قال، فأمر له بمائة ألف درهم، ووهبه هشام مائة ألف درهم" ([20]).
ومن ذلك ماذكروه عن أبي محلّم الشيباني الراوية المعروف المتوفى سنة 245هـ، قال المرزباني:
أخبرني محمد بن يحيى حدثنا الحسين بن يحيى قال:
"رأى الواثق بالله في منامه كأنه يسأل الله الجنةَ، وأن يتغمده في رحمته ولا يهلك بما هو فيه وأن قائلاً قال له: لا يهلك على الله من قلبه (مَرْتٌ)، فأصبحَ فسأل الجلساءَ عن ذلك فلم يعرفوا حقيقته فوجَّه إلى أبي محلَّم فأحضره، فسأله عن الرؤيا والمَرْت، فقال أبومحلَّم: (المَرْتُ من الأرض: القفرُ الذي لا نبتَ فيه) فالمعنى على هذا لا يَهْلَكُ على الله إلا من قلبه خالٍ من الإيمان خلو المَرْت من النبات.
فقال الواثق: أريد شاهداً من الشعر في المرت فأفكرَ أبو محلَّم طويلاً فأنشده بعض من حضر بيتاً لبعض بني أسد:
ومَرتِ مروراتٍ يَحارُ بها القَطَا *** ويصبح ذو علْمٍ بها وهو جاهلُ
وقد وردت آثار كثيرة تحث على إكرام الحفظة وتشجيعهم بالمال، من ذلك قول سيدنا علي رضي الله عنه:
"ما من رجلٍ يحفظ القرآن إلا كان حقه في بيت المال كل سنة مائتي دينار أو ألفي درهم، إن حُرِمَهُ في الدنيا لم يحرمه في الآخرة وإن حفظ نصف القرآن فمائة دينار أو ألف درهم، يؤاخذ به الوالي على بيت المال يوم القيامة، فإن كان له حسنات، أخذت من حسناته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من أوزار هذا العبد فحُمل على الوالي" ([22])
ويندرج تحت هذا أن بعض الحفظة كانوا يعتقدون فيما يبدو أن للكتاب المحفوظ بركة، فربما جلب لهم الرزق، نزعم ذلك مما ذكره السيوطي عن الصاغاني صاحب مجمع البحرين والتكملة على الصحاح، قال السيوطي:
"إن الصاغاني كان يقول لأصحابه:
احفظوا غريب أبي عبيد فمن حفظه ملك ألف دينار فإني حفظته فملكتها، وأشرت على بعض أصحابي بحفظه فحفظه وملكها". ([23])
5- ولعل بعضهم كان يطمح في أن يتحقق فيه ما قاله ابن عباس وهو أنه يولد في رأس كل سبعين سنة من يحفظ كلَّ شيء، فلعل هذا القيل دفع بالكثيرين منهم إلى محاولة الوصول إلى هذه المرتبة العالية، نزعم ذلك مما ذكره ابن العماد صاحب شذرات الذهب عن أبي محلَّم الشيباني قال مؤرج متحدثاً عن أبي محلَّم:
"أخذ مني كتاباً فحبسه ليلة ثم جاء به وقد حفظه، وقال له سفيان بن عيينة: لا أراك تخطئ شيئاً مما تسمع، ثم قال له: حدثني الزُّهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كلَّ شيء قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك منهم". ([24])
6- أن هناك اعتقاداً جازماً عند العلماء أن العلم الحقيقي هو ما حوته الصدور لا السطور ([25]).
ولقد جاءت الأشعار والروايات التي تؤكد على هذا الاعتقاد قال الشافعي:
علمي معي حيثما يممتُ يتبعني *** صدري وعاءٌ له لا بطنُ صندوقِ
إن كنت في البيت كان العلمُ فيه معي *** أو كنتُ في السوق كان العلم في السوق
([26])
وقال الشاعر محمد بن بشير الخارجي:([26])
ليس بعلمٍ ما حوى القِمَطرُ *** ما العلمُ إلا ما حواه الصدرُ
ونقل ابن قتيبة عن كتاب الهند قولهم:
"العالم إذا اغتربَ فمعه من علمه كافٍ كالأسد معه قوته التي يعيش بها حيث توجه" ([27]).
لقد روت كتب التراجم ما حصل للإمام الغزالي حين قال له كبير اللصوص هذه الحكمة فامتثل لها وراح يحفظ الكتبَ التي كان يحملها معه قال الغزالي:
"قُطِعَتْ علينا الطريقُ وأخذَ العيارون جميعَ ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إليَّ مُقدمهم وقال: ارجعْ ويحك وإلا هلكت.
فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ علي تعليقتي فقط، فما هو بشيء تنتفعون به.
فقال لي: وما هي تعليقتك ؟
فقلت له: كتبٌ في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها.
فضحك وقال: كيف تدَّعي أنك عرفت علمها ؟ وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتك وبقيت بلا علمٍ ؟
ثم أمر بعض أصحابه فسلَّم إليّ المخلاة.
قال الغزالي: هذا مُستنطقٌ أنطقه الله ليُرشدَني به في أمري، فلما وافيت (طوس) أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميعَ ما علَّقته، وصرتُ بحيث لو قُطِعَ عليّ الطريق لم أتجرد من علمي" ([28]).
7- أن طبيعة بعض العلوم تعتمد على الحفظ فلابد لطالب العلم من "متنٍ" يحفظه، يستفاد ذلك من توصية الدمياطي لأهل القراءات بأن يحفظوا كتاباً في هذا العلم، قال:
"من أراد علم القراءات عن تحقيق، فلابد له من حفظ كتاب كامل يستحضر به اختلاف القُراء" ([29]).
وعلى هذا النحو سارت العلوم الشرعية واللغوية أيضاً، إذ لابد من حفظ كتاب يكون طريقاً للتمكن وسبيلا للتثبت، فصنعوا المتون النثرية والشعرية لكل فن من فنونهم، فمن مالت نفسه إلى النثر وجد متناً نثرياً كـ (المفصل) و (الكافية) عند أهل النحو، ومن رأى نفسه تميل إلى الشعر وجد عنده (وافية ابن الحاجب) و (ألفية ابن معط) و (ألفية ابن مالك) وغيرها من المنظومات الشعرية التعليمية المعروفة، وقس على ذلك متون العلوم الأخرى.
8- والحق أن هناك عاملاً تفسر به هذه الظاهرة أحسن تفسير وأقواه، وهو العامل الديني نريد به ما ورد من آيات كريمة وأحاديث نبوية وأقوال للخلفاء والتابعين تحض على حفظ القرآن الكريم وتحث عليه، الأمر الذي جعل هذه المهارة من أهم المهارات ومن أوسعها انتشاراً وظهوراً، فقد اتفق الأئمة على أن حفظ القرآن الكريم فرض كفاية على الأمة، والغاية من ذلك أن لا ينقطع عدد التواتر من الحفظة فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف ([30]) أي يُفترَضُ وجودُ حُفَّاظٍ يبلغُ عددهم حد التواتر في الأقطار بحيث تتيسر مراجعة القرآن الكريم عندهم ([31]).
وقد وردت الأحاديث الكثيرة المرغبة في حفظ كتاب الله فضلاً عن تلاوته من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ([32]).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
(إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) ([33]).
ويندرج تحت هذا الترغيب النبوي ذلك الثناء العطر الذي نقرؤه في مقدمات كتب التفسير لحملة القرأن الكريم وحفاظه، من ذلك ما ذكره القرطبي حول مكانة هؤلاء الحفظة بقوله:
"فقرأة القرآن حملة سرِّ الله المكنون، وحفظة علمه المخزون، وخلفاء أنبيائه وأمنائه، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن لله أهلين منا، قالوا: يا رسول الله من هم ؟ قال: هم أهل القرآن، أهلُ الله وخاصَّتُه).
وعن عاصم بن حمزة بن علي رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلٌّ قد وجبت له النار). ([34])
وامتد هذا الثناء لمعلمي القرآن الكريم ومحفظيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(خيرُكم من تعلم القرآن وعلَّمه) ([35]).
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
(أَحبُّ العباد إلى الله تعالى بعد الأنبياء والشهداء المعلمون، وما في الأرض من بقعة بعد المساجد أحب إلى الله تعالى من البقعة التي يتلى فيها الكتاب) ([36]).
ولا ريب بعد ذلك كله أن مثل هذه الأحاديث والأقوال التي تحض على حفظ القرآن هي من أقوى الأسباب التي تدفع المسلم إلى حفظه وتعهده ليكون المرء ممن تشملهم هذه المنازل التي تحدثت عنها الأحاديث النبوية الشريفة وما أكثرها.
تلكم هي الأسباب التي وجدتها دوافع تشحذ الهمة، وتقوي العزيمة للحفظ، إذ يترقى الإنسان بها ليكون متميزاً متألقاً في علمه الذي تخصص فيه.
والآن ننتقل إلى الوسائل التي اعتمد عليها الحفظة في حفظهم.
ـــــــ ،،، ـــــــ
وسائل الحفظ وطرقه
إن الناظر في كتب التفسير واللغة يستطيع أن يلتقط الوسائل التي اعتمد عليها الحفظة لحفظ ما يريدون حفظه وعدم نسيانه، فهي في آنٍ واحد وسائل تساعد على الحفظ من جهة، وتثبت المحفوظ من جهة ثانية، وهي:وسائل الحفظ وطرقه
1- التكرار بأن يعيد الحافظ ما حفظ ويكرره، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوسيلة بقوله تعالى:
(لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه)، قال الآلوسي: وقيل: "اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك" ([37]).
ونقل عن ابن عباس قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى: (لا تحرك به لسانك)".
وذكر أبو حيان عن الضحاك قوله:
"السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشَقَّ فنزلت" ([38])، وهذا يعني أن معاهدة المحفوظ واستذكاره فيه مشقة وتعب وإجهاد، لكن تكرار هذا المحفوظ يؤدي إلى ثباته، ونقل أبو حيان عن بعضهم في قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) بأن هذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم على "أن لا ينسى على معنى التثبت والتأكيد، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته فهو نهي عن إغفال التعاهد" ([39]).
وأشار القرطبي وهو بصدد حديثه عما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به إلى وسيلة التكرار هذه لئلا ينسى قال:
"فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره في الصلاة أو في غير الصلاة لئلا ينساه"([40]).
وقد نص أهل القراءات كثيراً على أن من أحب حفظ القرآن فعليه أن يتعاهده كما قال الدمياطي، لأن نسيان شيء منه كبيرة، مؤكداً ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية، أوتيها رجل ثم نسيها)، "وليقل ندباً: أُنسيتُ كذا لا نسيته للنهي عنه في الحديث" ([41]).
وقد وردت أحاديث كثيرة تحذر من نسيان ما حفظ من القرآن فهي من جانب تحذيرٌ ومن جانب آخر ترغيبٌ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسُ محمد بيده، لهو أشد تفلتاً من الإبل في عُقُلها).
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إنما مَثَلُ صاحب القرآن كمثل الإبل المُعْقَلَةِ، إن عاهدَ عليها أمسكها وإن أطلقَها ذهبتْ).
وعن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو أجذم)([42]).
وقد ذكر أهل الحديث للترغيب في معاهدة القرآن واستظهاره بعض الرؤى المنامية التي تشير إلى فضل المثابرة على مراجعته وتكراره وعدم نسيانه:
فعن سليمان بن يسار قال: قال أبو أُسيد رضي الله عنه:
"نمت البارحة عن وردي حتى أصبحتُ، فلما أصبحت استرجعتُ، وكان وردي سورةَ البقرة فرأيت في المنام كأن بقرة تنطحني"
[رواه ابن أبي داوود].
وروى ابن أبي الدنيا عن بعض حفاظ القرآن أنه نام ليلة عن حزبه فأُري في المنام كأن قائلاً يقول له:
عجبتُ من جسم ومن صحةٍ *** ومن فتًى نام إلى الفجر
والموت لا تؤمن خطفاتُه *** في ظلمِ الليل إذا يسري
([43])
ونص النووي أنه يكره أن يقول الإنسان: نسيت آية كذا بل يقول: أُنسِيتُها أو أسقطتها ([44]).([43])
و بدهي أن عدم مذاكرة المحفوظ يؤدي إلى نسيانه وتشتته، وهو أمر بينٌ واضح في كل العلوم، يروى عن هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل أنه كان يقول:
"أعرفُ عشرين علماً أُنسيتُ بعضَها لعدم المذاكرة" ([45])
والخلاصة: أن التكرار ومراجعة المحفوظ والحرص عليه من الوسائل المهمة التي تؤدي إلى الثمرة، وهي تحقيق الحفظ وضبطه وعدم ضياعه.
قال الأصمعي حين سأله المازني عن كثرة محفوظاته ما نصه: "إنه كان همَّنا وسدَمنا".
قال أبو الطيب اللغوي: و(السَّدَمُ) ها هنا الحرص ([46]).
وأشار الشافعي إلى هذا الحرص بقوله:
أخي لن تنال العلم إلا بستة *** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة *** وصحبة أستاذ وطول زمان
([47])
ومراده من الحرص هو حرصه على الحفظ والفهم وعدم نسيان المحفوظ، ولا يتحقق ذلك إلا بتكراره واستظهاره دائماً.
2- ومن الوسائل التي ذكروها لتثبيت الحفظ وتسهيله الابتعاد عن الذنوب والمعاصي، وهذه الوسيلة من أهم الوسائل التي يجب على طالب العلم أن يسلكها، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله:
(واذكر ربك إذا نسيت)، قال بعضهم "اذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت" ([48]).
وقال ابن مسعود: "إني لأحسبُ الرجلَ ينسى العلم بالخطيئة يعملها"، وكتب رجل إلى أخ له كما قال ابن قتيبة: "إنك قد أُوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب" ([49]).
وقد شاعت نصيحة الإمام مالك للشافعي حين قدم عليه حافظاً موطأه في تسعِ ليالٍ، قال له مالك:
"يا محمد اتقِ الله، واجتنبِ المعاصي، فإنه سيكون لك شأنٌ، إن اللهَ قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية" ([50])، ولعل هذه الإضاءة أبرقت في عقل الشافعي البيتين الذين سارت بهما الركبان مضافاً إليها قول شيخه وكيع بن الجراح حين شكا له سوء حفظه فقال له:
"استعن على الحفظ بترك المعاصي" ([51]) والبيتان هما:
شكوت إلى وكيع سوءَ حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلـــــمَ نــــــورٌ *** ونورُ الله لا يهدى لعاصـــي
وفي رواية الأبشيهي ([52]):
وذلك أن حفظ العلم فضلٌ *** وفضل الله لا يؤتى لعاصي
فنص على لفظ الحفظ للاهتمام به.
3- اتجه بعض العلماء لتسهيل الحفظ وعدم النسيان إلى استثمار ما قيل حول بعض السور القرآنية أو الآيات الكريمة أو الأدعية والآثار الواردة عن بعض العلماء والزهاد والصالحين، وأحسب أن ما ورد من ذلك لو جمع لبلغ مئات الصفحات، أكتفي منها ما ذكره الأبشيهي في كتابه المستطرف قال:
"وجد في بعض الآثار عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تكون أحفظَ الناس فقل: عند رفع الكتاب أو المصحف أو ابتداء القراءة في كل شيء أردت: بسم الله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عدد كل حرف كُتِبَ ويُكْتَبُ أبدَ الآبدين ودهر الداهرين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم" ([53]).
وقيل: "إذا أردت أن لا تنسى حرفاً فقل قبل القراءة: اللهم افتحْ علينا حكمتك، وانشر علينا رحمتك يا ذا الجلال والإكرام".
وقيل: "إذا أردت أن ترزق الحفظ فقل خلف كل صلاة مكتوبة: آمنت بالله الواحد الأحد الحق، لا شريك له وكفرت بما سواه".
ونقل عن الشيخ ابن عجيل للحفظ أن يقرأ الإنسان في كل يوم عشر مرات (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) ثم يقول: "يا حيُّ يا قيوم يا ربَّ موسى وهارون، و يا ربَّ إبراهيمَ ويا ربَّ محمدٍ عليه وعليهم الصلاة والسلام، ألزمني الفهمَ وارزقني العلم والحكمة والعقلَ برحمتك يا أرحم الراحمين" ([54]).
ولا شك أن كثيراً مما ذكر لم يرد به نص شرعي يقطع في هذه المسألة، لكن هذه الآثار تدل على الجو الثقافي الذي كان يعيش فيه بعض العلماء في نظرتهم إلى هذه المهارة، ويصور أيضاً كيف حاولوا علاجها في المجتمع عند أولئك الذين تبلدت عقولهم وتوقفوا عن تنمية هذه المهارة.
4- استعمال بعض النباتات والأعشاب التي تساعد على الحفظ، لقد استقر عند القدماء هذا الاعتقاد بسبب التجارب التي حُدثوا عنها أو أشار إليها الحكماء فضلاً عن الأحاديث الواردة في الطب النبوي الشريف، قالوا عن ابن داوود صاحب المسند المتوفى سنة 204هـ: أنه أكل حَبَّ البلاذُر لأجل الحفظ والفهم فأحدث له جُذاماً وبرصاً فكان يحفظ أربعين ألف حديث ([55]).
أما الشافعي فقد نقل عنه قوله استعملت اللُّبان سنة للحفظ فأعقبني صبُّ الدم سنةً ([56]).
وتروي لنا كتب التراجم أن بعض الحفظة اعتمد نظاماً غذائياً حافظ به على محفوظه، من هؤلاء:
أبو بكر محمد بن قاسم الأنباري المتوفى سنة 328 هـ، هذا الرجل كان فريد دهره ووحيد عصره، كان يحفظ ثلاث مئة ألف بيت شاهد في القرآن، ويحفظ مائة وعشرين تفسيراً من تفاسير القرآن بأسانيدها، قال عنه أبو الحسن العروضي:
"اجتمعت أنا وهو عند الراضي بالله على الطعام، وكان قد عرف الطباخُ ما يأكل فكان يسوِّي له قليةًً يابسةًً قال: فأكلنا نحن من ألوان الطعام وأطايبه، وهو يعالج تلك القليَّةَ، ثم فرغنا وأُتينا بحلوى فلم يأكل منها، فقام وقمنا إلى الخَيش ([57])، فنام بين يدي الخَيْشِ ونمنا في خَيْشٍ يُنَافَسُ فيه، فلم يشربْ ماءً إلى العصر فلما كان بعد العصر قال: يا غلامُ الوظيفةَ، فجاءه بماءٍ من الجُبِّ ([58])، وترك الماء المزمَّلَ بالثلج فغاظني أمره فصحت صيحة: يا أمير المؤمنين فأمر بإحضاري وقال ما قصتك ؟
فأخبرته وقلت: يا أمير المؤمنين يحتاج هذا إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه، لأنه يقتلها ولا يحسن عُشرَتهَا، فضحك وقال: له في هذه لذة، وقد جرت له به عادة، وصار آلفاً لذلك فلن يضره، ثم قلت: يا أبا بكر لمَِ تفعل هذا بنفسك؟
فقال: أُبقي على حفظي، قلت له: قد أكثرَ الناس في حفظك، فكم تحفظ ؟
فقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقاً، ولقد كان هذا الرجل آية من آيات الله تعالى في الحفظ، ذكر حمزة بن محمد الدقاق قال: كان يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار والتفاسير والأشعار كلُّ ذلك من حفظه، وأملى كتاب غريب الحديث، قيل: إنه خمسٌ وأربعون ألف ورقة، وكتاب في شرح الكافي وهو نحو ألفِ ورقة، وكتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وكتاب الأضاد وشرح الجاهليات سبعمائة ورقة، وكتاب المشكل أملاه وبلغ فيه إلى طه وما أتمه وقد أملاه سنين كثيرة" ([59]).
وفي عصرنا الحاضر رأيت الشيخ الفاضل العلامة الراوية النسابة سعيد الطنطاوي -وهوشقيق الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله-، يسلك هذا المسلك في اعتماد نظام غذائي واجتماعي للحفاظ على محفوظه وهو القرآن الكريم مع خمسة عشر ألف بيت من الشعر، يستشهد به على كل ما يقع بصره عليه أو يُحَدِّث به، لقد ابتعد عن تناول اللحوم وأكثر من أكل الخضراوات والفاكهة، وأعرفه منذ ثلاث سنوات يقتصر على التمر والحليب وبرتقالة واحدة عند الصباح وشرب الماء فقط.. مع صوم الإثنين والخميس دائماً.
ولعل هذا النظام الغذائي جعله محافظاً على مخزونة المحفوظ حتى الآن بعد بلوغه الخامسة والثمانين سنة أمد الله في عمره وشفاه من العلل والأوصاب.
ولقد قدم ابن القيم في كتابه القيم الطب النبوي حديثاً قيماً نافعاً عن النسيان، فبين أسبابه حين تحدث عن فائدة اللُّبان (الكُندُر) قال:
"إن النسيان إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلب على الدماغ، فلا يحفظ ما ينطبع فيه، نفع منه اللُّبان، وأما إذا كان النسيان لغلبة شيء عارض، أمكن زواله سريعا بالمرطبات، والفرق بينهما، أن اليبوسيَّ يتبع سهر وحفظ الأمور الماضية دون الحالية، والرطوبي بالعكس"([60]).
ثم عرض يرحمه الله إلى بعض مضار ما يعتقده الناس أنه مفيد لذهاب النسيان، فقال:
"وقد يحدث النسيان أشياء بالخاصية، كحجامة نقرة القفا، وإدمان أكل الكسفرة الرطبة، والتفاح الحامض، وكثرة الهم والغم، والنظر في الماء، والبول فيه، والنظر إلى المصلوب، والإكثار من قراءة ألواح القبور، والمشي بين جملين مقطورين، وإلقاء القمل في الحياض، وأكل سؤر الفأر، وأكثر هذا معروف بالتجربة" ([61]).
وذكر يرحمه الله كثيراً من الآثار التي تدل على فوائد اللبان في تقوية الذاكرة وعدم النسيان، قال:
"يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه النسيان: عليك بالُّلبان، فإنه يشجع القلب ويذهب بالنسيان".
ثم ذكر عن ابن عباس قوله أيضاً:
"إن شرب اللُّبان مع السكر على الريق جيد للبول والنسيان".
ونقل عن أنس رضي الله عنه قوله لرجل شكا إليه النسيان، فقال:
"عليك بالكندر، وانقعه من الليل، فإذا أصبحت فخذ منه شربة على الريق فإنه جيد للنسيان" ([62]).
ولقد رجعت إلى مواقع الخزانة العالمية كـ (ملتقى أهل الحديث) و (الألوكة) فوجدت أصحابها يفيضون في ذكر الأعشاب والنباتات التي تساعد على الحفظ وتقوي الذاكرة، ذاكرين أن بعضها منقول عن الطب النبوي لابن القيم منها:
العسل و الزنجبيل و الميرمية و الزبيب و حبوب اللَّقاح و الفلفل الأبيض و القرفة و الكُنْدُر والجوز (عين الجمل) و حبُّ الفهم المسمى البلاذُر والهندباء البرية والخميرة، ثم يوصون طالب العلم بالإكثار من تناول الخضراوات والفاكهة الطازجة، وذكر بعضهم الحجامة، لكن صاحب بستان العارفين وابن القيم ذهبا إلى أنها مكروهة و تورث النسيان إن كانت في نقرة القفا ([63]).
وذكر واحد منهم أنه حضر دورات لتعليم الحفظ فعلموه التنفس العميق، وشجعوه على الجلوس في الصفوف الأولى، وعدم إشغال الفكر بشيء إلا بالمحفوظ.
هذا ما ألفيناه من حديث القدماء والمحدثين حول وسائل الحفظ وتثبيت المحفوظ.
ـــــــ ،،، ـــــــ
أوقات الحفظ والمذاكرة
عرض أهل القرآن الكريم المشتغلون بحفظه أوقاتاً فُضِّلتْ على غيرها لأجل سرعة الحفظ والفهم، وهي:أوقات الحفظ والمذاكرة
1- بعد صلاة الفجر لأن الذهن يكون نشيطاً وعملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها). ([64])
2- قبل النوم أفدت ذلك مما ذكروه في ترجمة الفيروز أبادي، فقد نقل السيوطي عنه أنه كان يقول: "ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر"([65]).
3- وقد تحدث الأبشيهي عن أوقات فضيلة يستحسن فيها قراءة القرآن -وأرى أنه يستحسن فيها الحفظ أيضاً- قال:
"وأما في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل والنصف الأخير أفضل من الأول، والقراءة من المغرب والعشاء محبوبة، وأما قراءة النهار فأفضلها بعد صلاة الصبح" ([66])، وهذه الأوقات تضمنتها الآية القرآنية (آناء الليل وأطراف النهار).
4- وألفيت في موقع (ملتقى أهل الحديث) و (الألوكة) تأكيداً على هذه الأوقات وأضافوا إليها أن على القارئ أن يختار الوقت الذي ليس فيه أشغال وأعمال.
وذكروا بعض الخطوات التي تساعد على هذه المهارة وهي:
1- تصحيح ما يراد حفظه لئلا يحفظ الطالب الغلط فيرسخ الغلط في ذهنه.
2- حفظ اليسير الذي يقدر عليه.
3- مراعاة وقت الحفظ التي أشرنا إليها.
4- كثرة التكرار مع المراجعة الأسبوعية والشهرية.
5- وقد أشار الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي إلى طريقة يتبعها أهل شنقيط للحفظ، فقال:
"من الطرق في الحفظ، طريقةُ الجهات الأربع وحاصلها أن الطالب بعد أن يحفظ الدرس يكرره عشرين مرة إلى كل جهة من الجهات الأربعة فيتجه إلى الشرق فيقرؤه عشرين مرة، ثم إلى الغرب كذلك، ثم إلى الشمال كذلك، ثم إلى الجنوب كذلك، وبعضهم يقرأ على كل أصبع من أصابع يديه ما يريد حفظه عشر مرات، وسُئل أحد مشايخهم الذين أتقنوا حفظ مختصر خليل في الفقه المالكي عن طريقة حفظه له فقال: ألف غياب ومائة تكريره، أي إنه كان يقرأ درس المتن ألف مرة، ويراجع الشرح من ذهنه مائة مرة" ([67]).
وأضاف الشيخ محمد الددو حفظه الله أن كتاب مختصر خليل يدرسه الطلاب المتوسطون عندهم إذا كانوا جادين في سنة، لأنه ثلاث مئة وثلاثة وثلاثون درساً، أما ألفية ابن مالك فحفظها يستغرق عشرة أشهر ([68]).
ـــــــ ،،، ـــــــ
وننتقل الآن إلى:
مظاهر مهارة الحفظ عند القدماء والمحدثين
وننتقل الآن إلى:
مظاهر مهارة الحفظ عند القدماء والمحدثين
إن الناظر في كتب التراجم يُدهش لكثرة ما حوت من أخبار هؤلاء النحارير، وأعاجيب الدهارير، ولكثرتهم وتنوع علومهم جعلتُهم في طائفتين:
الأولى: طائفة أهل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والفقهاء والمفسرين.
الثانية: طائفة اللغويين والرواة والنحاة والشعراء.
أما أصحاب الطائفة الأولى: فقد ألف كثيرٌ من العلماء معاجمَ تدل عليهم، وتشيد بذكرهم من ذلك طبقات القراء وطبقات الحفاظ للذهبي وغاية النهاية لابن الجزري و طبقات الحفاظ للسيوطي وطبقات المفسرين للداودي وغير ذلك كثير، ومن قراءاتنا في كتبهم وقفت على كبارهم الذين نلحظ عندهم هذه الظاهرة واضحة، منهم:
1- الإمام الفقيه الشعبي المتوفى سنة 103 هـ، قال عن نفسه:
"لو أن رجلاً حفظ ما نسيت كان عالماً" ([69]).
ونقل الأبشيهي عنه ما نصه:
"دخلت على الحجاج حين قدم العراق، فسألني عن اسمي فأخبرته، ثم قال: يا شعبي كيف علمك بكتاب الله ؟
قلت: عني يُؤخَذُ.
قال: كيف علمك بالفرائض ؟
قلت: إليَّ فيها المنتهى.
قال: كيف علمك بأنساب الناس ؟
قلت: أنا الفيصلُ فيها.
قال: كيف علمك بالشعر ؟
قلت: أنا ديوانه.
قال: لله أبوك، وفرض لي أموالاً، وسودني على قومي فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همَدان وخرجت وأنا سيدهم ([70]).
2- ابن وهب الفهري المتوفى سنة 125هـ قيل عنه، حدث بمائة ألف حديث ([71]).
3- يزيد بن هارون المتوفى سنة 182هـ قيل: إنه كان يحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بأسنادها ويحفظ للشاميين عشرين ألفاً ([72]).
4- الإمام أبو داوود الطيالسي المتوفى سنة 204 هـ، صاحب المسند قيل: كان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث، وقيل أربعين ألفاً ([73]).
5- الإمام الشافعي المتوفى سنة 205 هـ عالم قريش الذي ملأ طباق الأرض علماً، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر([74]).
قال:
"عمدت إلى الموطأ فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليالٍ ظاهراً"، وحفظ عشرة آلاف بيت من شعر هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها ولكثرة حفظه وثبته صحح الأصمعي عليه أشعار هذيل، ووصف بأنه ما نَسي شيئاً حفظه أو سمعه ([75]).
6- عائلة الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، كان رحمه الله من كبار الحفظة، قيل لأبي زُرعة:
"من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ ؟
قال: أحمد بن حنبل، حُزرَتْ كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا، ما على ظهر كتاب منها حديث فلان ولا في بطنه حدثنا فلان كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه" ([76]).
وانتقلت هذه المهارة إلى ابنه عبدالله أبي عبد الرحمن المتوفى سنة 260هـ، قال صاحب شذرات الذهب عنه: يقال:
"إن والده حفظه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، ثم قال له: لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا.
فقال: ولِم َأذهبت أيامي في حفظ الكذب ؟
قال: لتعلم الصحيح، فمن الآن أحفظ الصحيح" ([77]).
7- إسحاق بن بهلول، المتوفى سنة 252 هـ، قال عنه ابن صاعد حدث بنحو خمسين ألف حديث من حفظه، وعاش ثمانين سنة ([78]).
8- شيخ المحدثين الإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ، قال عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة:
"ما رأيت تحت أديم السماء أعلمَ بالحديث ولا أحفظَ له من محمد بن إسماعيل البخاري، حتى كان يقال: إن حديثاً لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث".
قال البخاري رحمه الله تعالى:
"أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح"([79]).
9- ومنهم أبو زُرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 264 هـ المحدث المشهور قال عنه إسحاق بن راهويه:
"كل حديث لا يحفظه أبو زُرعة ليس له أصل" ([80])
10- إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 264هـ قيل: كان يحفظ سبعين ألف حديث ([81]).
11- أبو قلابة، عبد الملك بن محمد الرقاشي المتوفى سنة 276هـ قيل عنه: إنه روى من حفظه ستين ألف حديث، وكان يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ([82]).
12- أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المتوفى سنة 287هـ، قال:
"ذهبت كتبي فأمليت من ظهر قلبي خمسين ألف حديث" ([83]).
13- يحيى بن محمد العنبري السلمي المتوفى سنة 344هـ، كان من نحارير الحفظة، قال أبو علي الحافظ:
"الناس يعجبون من حفظنا لهذه الأسانيد، وأبو زكريا العنبري يحفظ من العلوم ما لو كلفنا حفظ شيء منه لعجِزْنا عنه وما أعلم أني رأيت مثله" ([84]).
14- ابن الفحام أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي بكر الصقلي النحوي المشهور المتوفى سنة 510 هـ صاحب كتاب التجريد بالقراءات قال عنه سليمان بن عبد العزيز:
"ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات من ابن الفحام لا بالشرق ولا بالغرب وقيل: كان يحفظ القراءات كالفاتحة" ([85]).
15- ابن القرطبي أبو بكر عبد الله بن حسن الأنصاري الأندلسي المتوفى سنة 611 هـ كان من أهل الحفظ لأسماء الرجال ولم يكن أحد يدانيه في الحفظ والتعديل إلا أفراداً من عصره، وقد نوظر عليه في كتاب سيبويه ([86]).
16- المرسي المفسر النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله السلمي الأندلسي، المتوفى سنة 655هـ ذكر الذهبي حين ترجم له أنه قرأ على أبي إسحاق بن إبراهيم بن يوسف ابن دهاق المعروف بابن المرأة.
قال عنه الذهبي: "كان لو قال هذه الآية تحتمل ألف وجه لقام بها".
وقال ابن دهاق عن نفسه: "ماسمعت شيئاً إلا حفظته".
ونقل عنه قوله: "حفظت وأنا شاب القرآن وكتباً، منها إحياء علوم الدين للغزالي" ([87]).
17- ابن تيمية الإمام المعروف المتوفى سنة 738هـ، قال عنه جمال الدين السرمدي: "ومن عجائب زماننا في الحفظ ابن تيمية، كان يمر بالكتاب مرة مطالعة، فيُنقش في ذهنهِ وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه" ([88]).
18- عمر بن رسلان البلقيني المتوفى سنة 805 هـ، حفظ القرآن وهو ابن سبع والشاطبية والمحرر والكافية والشافية والمختصر الأصلي، ومما يحكى عن حفظه: "أنه أول ما دخل الكاملية طلب من ناظرها بيتاً فامتنع واتفق مجيء شاعر الناصر بقصيدة وأنشده إياها بحضرة البلقيني.
فقال للناظر: قد حفظتها.
فقال له الناظر: إن كان كذلك أعطيتك بيتاً فأملاها له من حفظه جميعها فأعطاه البيت".
قال له ابن كثير: "أذكرتنا ابنَ تيمية".
وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: "ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظَ منك".
وقال البرهان الحلبي: "رأيته رجلاً فريد دهره لم تر عينيَّ أحفظ َمنه للفقه وأحاديث الأحكام".
وأضاف الشوكاني قائلاً: "وقد كان وقع الاتفاق على أنه أحفظ أهل عصره وأوسعهم معارف وأكثرهم علوماً، ولم يزل متفرداً في جميع الأنواع العلمية حفظاً وسرداً لها كما هي حتى توفاه الله" ([89]).
19- ابن حجر صاحب فتح الباري، المتوفى سنة 852 هـ، ترجم له الشوكاني بقوله: "حفظ القرآن وهو ابن تسعٍ، ثم حفظ العمدة وألفية الحديث للعراقي، والحاوي الصغير ومختصر ابن الحاجب في الأصول والملحة"، وأضاف قائلاً: "ثم تصدى لنشر الحديث، وشهد له بالحفظ حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه إجماع"، ثم قال: "ولا ريب أن أجل مصنفاته فتح الباري، وكان شروعه في تصنيفه سنة 817 هـ على طريق الإملاء" ([90]).
20- أخيرا أتحفكم بهذه التحفة العجيبة الفريدة، لقد نقل تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى أن: "كتبَ خِزانة المدرسة النظامية حرقت في زمن حياة نظام الملك فشقَّ عليه ذلك، فقالوا له: لا تخف إن ابنَِ الحداد وهو من فقهاء الشافعية يُملي للكتّاب جميع ما حُرق من حفظه، فأرسلوا خلفه فأملى جميع ما حرق في مدة ثلاث سنين ما بين تفسير وحديث وفقه وأصول ونحو ذلك" ([91]).
هذا غيض من فيض وسطر من كتاب مما حفلت به كتب التراجم حول أعلام وأخبار الطائفة الأولى فهم كما ترى فلتات الزمن ومحاسن الدهر، رحمهم الله تعالى وأنزل على قبورهم شآبيب رحماته ومزون ألطافه.
تابع...
تابع...