محمد المطري
New member
نهي النساء عن التبرج في البيوت
بقلم الدكتور/ محمد بن جميل المطري
بقلم الدكتور/ محمد بن جميل المطري
يقول ربنا سبحانه للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، أَمَرَ اللهُ النساء بالقرار في البيوت فلا يخرجن إلا لحاجة، وإن خرجن لحاجة فليدنين عليهن الجلابيب كما في آية الجلابيب، ونهاهن عن التبرج، وهو إظهار الزينة والمفاتن والعورات، والنهي عن التبرج يشمل التبرج حال القرار في البيوت، والتبرج حال الخروج من البيوت، قال ابن جرير في تفسيره (17/ 364): "التبرج: هو أن تُظهِر المرأة من محاسنِها ما ينبغي لها أن تستره"، وتبرج المرأة خارج بيتها أشد فتنة، وأعظم إثمًا.
إباحة إظهار المرأة زينتها الظاهرة في بيتها من غير إظهار مفاتنها
أباح الله سبحانه للمرأة أن تُظهِر زينتها الظاهرة في بيتها وعند النساء والرجال المحارم، والزينة الظاهرة هي الثياب الظاهرة الساترة لمفاتن المرأة، والزينة التي تكون في الوجه والكفين كالكُحل والخِضاب والخاتم، وحرَّم الله على المرأة أن تُظهِر مفاتنها وعورتها لغير زوجها، وقد جاء وعيدٌ شديدٌ للمرأة التي تُظهِر عورتها ومفاتنها لغير زوجها من النساء والمحارم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْإِبِلِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا)) رواه مسلم (2128) وأحمد (9680) وغيرهما، قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 204): "معنى قوله: (كاسيات عاريات) يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصِف ولا يستر، فهُنَّ كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة"، وقال النووي في شرح صحيح مسلم (14/ 110): "قيل: معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، وقيل: معناه تلبس ثوبًا رقيقًا يصف لون بدنها، ومائلات: عن طاعة الله، مميلات: يُعلِّمن غيرهن فعلهن المذموم، ... ومعنى رؤوسهن كأسنمة الإبل أن يُكبِّرنها ويُعظِّمنها بلفِّ عِصابة أو نحوها" انتهى باختصار، وهذا الحديث عام، سواء كانت كاسية عارية عند النساء أو عند أرحامها من الرجال أو عند الرجال الأجانب، وللعلَّامة ابن عُثيمين فتوى في تحريم لبس المرأة الملابس الضيقة التي تبين مفاتنها عند النساء والمحارم، واستدل على التحريم بهذا الحديث، وقال: "لا يجوز لبس الضيق الذي يبين مفاتن المرأة لا عند المحارم ولا عند النساء، ولا يجوز إلا عند الزوج، فإنه ليس بين الزوج وزوجته عورة". يُنظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (12/ 273).
آيتان تتعلقان بحجاب المرأة وزينتها
في القرآن الكريم آيتان تتعلقان بحجاب المرأة وزينتها، إحداهما تأمر المرأة بلبس الجِلباب عند خروجها من بيتها، وثانيهما تبين للمرأة ما يجوز لها أن تظهره من زينتها لأرحامها والنساء، وذلك يكون غالبًا وهي في بيتها.
الآية الأولى التي فيها أمر النساء بإدناء الجلابيب عند خروجهن من البيوت وعند الرجال الأجانب هي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وإدناء الجلباب يشمل تغطية الرأس والوجه حتى يُعرَفن بالعفة فلا يؤذيهن الفَسَقة.
والآية الثانية هي آية سورة النور في حال كون المرأة في بيتها، فتُظهِر الوجه والكفين والزينة الظاهرة للمحارم والنساء في البيوت من غير تبرج بإظهار المفاتن والعورات، قال الله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور: 31].
ومعنى الآية: وقل - يا أيها الرسول - للمؤمنات يكففن النظر إلى من يشتهين رؤيته من الرجال الأجانب حذرًا من الفتنة، ويحفظن فروجهن عن جميع الفواحش. ولا يُظهِرن زينتهن حال كونهن في البيوت إلا الزينة التي تَظْهَر مما لا يمكن إخفاؤه كالثياب الظاهرة أو الزينة التي تكون في الوجه والكفين كالكحل والخاتم والخضاب. وليُلقين الخِمار الذي تغطي به المرأة رأسها على فتحة القميص مما يلي الرقبة ويشددنه ليسترن شعورهن وآذانهن وأعناقهن ونحورهن وصدورهن، وهذا حال كونهن في بيوتهن. ثم ذكر الله ما يجوز للمرأة إظهاره من الزينة، والزينة هي كل ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب، وهي إنما تُظهِر الزينة لزوجها وأرحامها والنساء.
ومعنى الآية بالتفصيل: ولا يُظهِرن زينتهن إلا لأزواجهن أو لآبائهن وأجدادهن أو لآباء أزواجهن وأجدادهم أو لأبنائهن وأحفادهن أو لأبناء أزواجهن من غيرهن وأحفادهم أو لإخوانهن الأشقاء أو لأب أو لأم أو لبني إخوانهن وأبنائهم أو لبني أخواتهن وأبنائهم أو للنساء المسلمات أو لمماليكهن أو للذين يتبعون القوم للخدمة والطعام ممن لا شهوة لهم في النساء كالرِّجال البُلْه وكبار السنِّ أو للأطفال الذين لم يطَّلِعوا على عورات النساء بالجماع ولا يشتهونهن لصِغَر سنِّهِم. ولا تَضربِ النساء بأرجلهن الأرض أو بإحدى الرجلين على الأخرى فيسمع الرجال صوت الخلاخل المستورة من وراء الثياب. وتوبوا إلى الله - أيها المؤمنون والمؤمنات - بإخلاص في كل حال واتركوا ما نهاكم الله عنه وأطيعوه فيما أمركم به من غض الأبصار وحفظ الفروج وما أمر به النساء من تغطية المفاتن كأعالي الصدور وما نهى عنه النساء من إظهار الزينة إلا الزينة الظاهرة التي رخَّص للمرأة في إظهارها في بيتها لأرحامها وللنساء، وفي التوبة إلى الله الفوز بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
ففي هذه الآية الكريمة أمرُ المرأة بالستر في بيتها، ومن بابٍ أولى إذا خرجت من بيتها، وليست هذه الآية في بيان ما تُظهِره المرأة من زينة عند خروجها من البيت كما ظن ذلك بعض العلماء فوقعت لهم أغلاط وإشكالات، فآية إدناء الجلابيب هي في بيان ما يجب على المرأة عند خروجها من البيت وعند الرجال الأجانب، وآية سورة النور هي في حال كون المرأة في بيتها، فتُظهِر وجهها وكفَّيها وزينتها الظاهرة لمحارمها وللنساء في البيوت، من غير تبرج بإظهار المفاتن والعورات.
آية سورة النور هي لبيان ما تُظهِره المرأة في بيتها للمحارم والنساء
آية سورة النور هي لبيان ما تُظهِره المرأة من زينتها الظاهرة في بيتها للمحارم والنساء، وليست في بيان عورة المرأة، ولا في بيان حجاب المرأة خارج بيتها، ويدل على هذا سياق الآية لمن تأملها، ففيها أمرُ المرأة بتغطية صدرها من غير ذكر تغطية الوجه، وذلك يكون في البيوت، وفيها إباحة إبداء المرأة زينتها الظاهرة للآباء والأبناء وغيرهم من الأرحام وللنساء، وهي إنما تُظهِر لهم زينتها غالبًا في البيوت لا خارجها، وفيها التفريق بين ذكر الزينة التي تظهرها للمحارم والأطفال، والعورات التي لا يظهر عليها الأطفال، وفيها نهي المرأة عن الضرب برجلها لإظهار صوت الخلخال، والمرأة إنما تلبس الخلخال في رجليها غالبًا في بيتها وليس عند خروجها، ويدل على ذلك ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2580) عن سعيد بن جُبَير قال: (كانت المرأة يكون في رِجْلِها الخِلخال فيه جَلاجل، فإذا دخل عليها غريبٌ تُحرِّك رجلها عمدًا ليسمع صوت الخلخال، فقال: {وَلَا يَضْرِبْنَ} يعني: لا يحركن أرجلهن).
وقد صح عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه فسَّر آية سورة النور بما يدل على أنها لبيان ما تُظهِره المرأة من زينتها في بيتها للمحارم والنساء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (الزينة الظاهرة: الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم، فهذا تُظهِره في بيتها لمن دخل عليها، والزينة التي تُبديها لمحارمها: قرطاها وقلادتها وسواراها، فأما خلخالها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها) رواه ابن جرير في تفسيره (17/ 259، 264) والبيهقي في السنن الكبير (7/ 152) بإسناد صحيح، من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهذا الإسناد يُروى به نسخة مشهورة في التفسير، اعتمدها الإمام البخاري في صحيحه في نقل أقوال ابن عباس في التفسير.
قال البيهقي بعد رواية قول ابن عباس السابق: "هذا هو الأفضل ألا تبدي من زينتها الباطنة شيئًا لغير زوجها إلا ما يظهر منها في مهنتها، ... والصحيح أنها لا تبدي لذوي محارمها إلا ما يظهر منها في حال المهنة، وبالله التوفيق"، والصحيح عند الفقهاء جواز إظهار المرأة شعرها عند النساء والرجال المحارم كالأب والابن والأخ، وليس هذا من التبرج المنهي عنه، روى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (12834) عن إبراهيم النَّخَعي قال: (ينظر المحارم من المرأة إلى ما فوق الذراع والرأس والأذن)، وروى ابن جرير في تفسيره (17/ 264) عن قتادة قال: (تُبدي لهؤلاء الرأس)، والقول بأنَّ عورة المرأة أمام أرحامها الرجال ما بين السرة والركبة قولٌ مرجوح عند كثير من العلماء، وتقدم كلام ابن عباس والنخعي وقتادة والبيهقي، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل المالكي (1/ 248): "عورة الحرة مع الرجل المحرَم مِن نسبٍ أو رضاعٍ أو صهرٍ جميع بدنها إلا الوجه والأطراف، وهي ما فوق المنحر، وهو شاملٌ لشعر الرأس والقدمان والذراعان، فليس له أن يرى ثديها وصدرها وساقها"، وينبغي التنبه إلى أنَّ الفقهاء الذين حددوا عورة المرأة أمام المرأة بما بين السرة والركبة لا يريدون كشفها لذلك في بيتها على الدوام، بل عند العذر والحاجة المعتبرة، والأرجح عند كثير من العلماء المحققين أنه لا يجوز للمرأة كشف صدرها وبطنها وظهرها أمام النساء بلا عُذرٍ ولا حاجةٍ معتبرة، وليس هذا من الحياء الذي تؤمر به المرأة، وتُمدح به، وتؤجر عليه، قال ابن القطان في إحكام النظر (ص: 284): "تبدي المرأة للمرأة ما تبديه لذوي محارمها، وهي ممنوعة مما زاد عليه".
أقوال العلماء في تفسير قول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
هذه الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} في تفسيرها قولان مشهوران للعلماء:
القول الأول: أنه الثياب الظاهرة، صح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال ابن جرير في تفسيره (17/ 257): حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (الثياب)، قال أبو إسحاق: ألا ترى أنه قال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
القول الثاني: أنه الوجه والكفان، صح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وكلا القولين صواب، فمراد من قال: الوجه والكفان أي: داخل البيوت أمام النساء والمحارم، كما صرَّح به ابن عباس في قوله السابق، وقد صح عن الحسن البصري أنه فسَّر هذه الآية بالقولين، قال ابن جرير في تفسيره (17/ 261): حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، قال: قال يونس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الحسن البصري: (الوجه والثياب)، وهذا إسناد صحيح.
وقد أخطأ من ظن أن المراد بقول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إظهار المرأة وجهها وكفيها عند خروجها من بيتها، وظن أن قول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} في بيان حجاب المرأة خارج بيتها، فالصحيح أن المقصود بها تغطية الصدور في البيوت مع كشف الوجه والكفين، فيظهر ما في وجهها وكفيها من زينة، أما إذا خرجت فعليها إدناء جلبابها وتغطية صدرها مع وجهها، وقد صرح بهذا ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتقدم أنه قال: (الزينة الظاهرة: الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم تُظهِره في بيتها لمن دخل عليها)، وروى ابن جرير في تفسيره (19/ 181) بإسناد صحيح من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب)، فما جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنه الوجه والكفان يقصد بذلك إظهار الوجه والكفين في البيوت، حيث لا يكون هناك أحد من الرجال الأجانب، أما إذا خرجت من بيتها فعليها أن تغطي وجهها بالجلباب؛ لأن الله سبحانه أمر النساء بإدناء الجلابيب عند خروجهن من البيوت وعند الرجال الأجانب، والجلباب هو اللباس الذي يغطي جميع بدن المرأة، وقد أمر الله النساء بإرخاء الجلابيب الساترة لجميع البدن، قال القرطبي في تفسيره (14/ 243): "الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخِمار، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن".
ويدل على أن المراد إظهار المرأة وجهها وكفيها في بيتها لا عند خروجها من البيت أنَّ المفسرين من الصحابة والتابعين صرَّحوا بأنَّ معنى قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنَّ المرأة تُظهِر الكُحْل والخاتم والخِضاب ونحو ذلك من الزينة التي تكون في الوجه والكفين، فصح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (هو الوجه والكُحْل والكفُّ والخِضاب والخاتم)، رواه عبد الرزاق الصنعاني تفسيره (2/ 435) ويحيى بن معين كما في الجزء الثاني من حديث يحيى بن معين رواية أبي بكر المروزي (ص: 88) والبيهقي في السنن الكبير (7/ 137) من عدة طرق عن ابن عباس، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2574) بإسناد حسن عن مجاهد قال: (الثياب والخضاب والخاتم والكحل)، وروى ابن جرير في تفسيره (17/ 260) بإسناد حسن عن عامر الشعبي قال: (الكحل والخضاب والثياب)، وروى ابن أبي شيبة (3/ 547) بإسناد حسن عن عكرمة في قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (الوجه وثُغْرة النحر) أي: أعلى الصدر، وروى ابن جرير بإسناد صحيح (17/ 263) عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (هذه ما فوق الذراع)، ومعلوم أنَّ أعلى الصدر وما فوق الذراع لا يجوز للمرأة إظهاره حال خروجها من بيتها بالإجماع، ولا حتى في الصلاة، فمقصد هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين أنَّ المرأة تُظهِر ذلك في بيتها عند النساء والرجال المحارم، والمشهور عند العلماء الذين يرون جواز إظهار المرأة وجهها وكفيها حال خروجها من بيتها اشتراطهم أن لا يكون في وجهها ويديها زينة كالكحل والخضاب والخاتم، والصواب أنه لا يجوز للمرأة الشابة كشف وجهها وكفيها عند الرجال الأجانب لغير حاجة معتبرة أو ضرورة، قال الموزعي في تيسير البيان لأحكام القرآن (4/ 77، 78): "لم يزل العمل على تغطية المرأة وجهها قديمًا وحديثًا في جميع الأمصار والأقطار، ويتسامحون للعجوز في كشف وجهها، ولا يتسامحون للشابة، والسلف كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة، وما أظن أحدًا منهم يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة"، انتهى باختصار.
عبادة الحجاب سببٌ لطهارة القلوب والعفاف
إنَّ طهارة القلوب والسلامة من الفِتَن تكون بغض الأبصار، وامتثال ما شرعه الله للنساء من حجاب لمصلحة العباد، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، وهذه الآية تسمى آية الحجاب، وهي عامة لنساء النبي عليه الصلاة والسلام وجميع المسلمات؛ لأن المقصود بها طهارة قلوب الرجال والنساء، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، وهذه الآية تسمى آية الجلابيب، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (15/ 448): "آية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن"، قال الجَصَّاص في أحكام القرآن (3/ 486): "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع أهل الرِّيَب فيهن"، وقال البيضاوي في تفسيره (4/ 238): "{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}: يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحِفهن إذا برزن لحاجة".
وينبغي أن يُعلم أن جماهير العلماء على أنَّ وجه المرأة وكفيها ليسا عورة، ولو كانا عورة لما جاز لها أن تكشفهما في الصلاة، فهما ليسا عورة لكنهما فتنة يجب على المرأة سترها عن أعين الرجال الأجانب إلا للحاجة المعتبرة والضرورة، كما أنَّ صوت المرأة ليس عورة على الصحيح عند العلماء، ويجب عليها أن تغض من صوتها إذا احتاجت للكلام مع رجل أجنبي بقدر الحاجة؛ لأنَّ صوتها فتنة، قال الله تعالى مخاطبًا نساء النبي عليه الصلاة والسلام: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، قال الجصَّاص في أحكام القرآن (3/ 470، 471): "لا تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة، وفيه الدلالة على أنَّ ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن، والدلالة على أنَّ الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال، وفيه الدلالة على أنَّ المرأة منهية عن الأذان، وإذا كانت منهية عن إسماع صوت خلخالها فكلامها إذا كانت شابة أولى بالنهي عنه" انتهى باختصار، وقال النيسابوري في تفسيره (5/ 184): "في النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة؛ ليُعلم أنَّ كل ما يجُر إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه، فإنَّ الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخِلخال يصير ذلك داعيًا له إلى مشاهدتهن، ومنه يُعلَم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم تؤمن الفتنة؛ ولهذا كرهوا أَذَان النساء".
فالله سبحانه أمر الرجال والنساء بالطُّهر والعفاف، وحذَّرهم من اتباع خطوات الشيطان، ومن كل ما يسبب الفِتَن، ويُقرِّب من الفواحش، والله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، لا يأمر إلا بما يصلح العباد، ويدفع عنهم الفساد، ومن أعظم الفساد فساد الأخلاق، ومن أخطر الفتن فتن الشهوات، وقد جاءت آيات كثيرة في التحذير من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والثناء على الذين يحفظون فروجهم من الحرام، ويطهرون قلوبهم من الأمراض، وتقدم أنَّ الله سبحانه أمر النساء بتغطية صدورهن ولو كنَّ في البيوت فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وهو أمرٌ مطلق يدل على أنَّ المرأة مأمورة بتغطية صدرها بالخِمار ولو كانت في بيتها، ولو عند أرحامها ونسائها، قال ابن تيمية كما مجموع الفتاوى (22/ 150): "المرأة مأمورةٌ من جهة الشرع بالستر حقًا لله عليها وإن لم يرها بشر"، فالله سبحانه لم يقيد الأمر بضرب الخمار على الجُيوب بكون ذلك عند الخروج من البيوت، وإن كان الاعتناء بالستر عند الخروج من البيوت أشد.
حرص الصحابيات على عبادة الحجاب
الحجاب عبادة تؤجر عليها المرأة لامتثالها أمر الله سبحانه، سواء الحجاب الساتر للعورات والمفاتن دون الزينة حال القرار في البيوت، أو الحجاب الساتر للعورات والمفاتن والزينة عند الخروج من البيوت، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأُول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها) رواه البخاري (4758)، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2575) عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل، لما أُنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالُهنَّ إليهنَّ يتلون عليهنَّ ما أُنزِل إليهنَّ فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، ما منهنَّ امرأة إلا قامت إلى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه)، وظاهر قول عائشة هذا أنَّ الصحابيات رضي الله عنهن عمِلن بهذه الآية بتغطية صدورهن في البيوت؛ ولذلك ترحمت عليهن أم المؤمنين عائشة وأثنت عليهن لكمال انقيادهن لأمر الله سبحانه.
حكم إظهار المرأة مفاتنها أمام النساء والرجال المحارم
لا يجوز للمرأة أن تتبرج في بيتها أمام النساء والرجال المحارم بإظهار محاسنها ومفاتنها كأعالي الصدر والمنكبين والظهر والبطن والإبطين والجنبين والفخذين، وإنَّ إظهار الشابة مفاتنها لأرحامها أو للنساء ولو في الأعراس إثم كبير، وفتنة عظيمة، وباب شر يجب إغلاقه، ومنكرٌ عظيم يجب إنكاره، وقد كان بعض العلماء يمنعون المرأة أن تظهِر شعرها لغير زوجها، فكيف بإظهار ما هو أشد فتنة من الشعر؟! قال يحيى بن سلَّام في تفسيره (1/ 441): (حدثنا الحسن بن دينار عن الحسن البصري قال: لا تضع المرأة خمارها عند أبيها ولا ابنها ولا أختها ولا أخيها. وعن ابن عباس قال: لا ينبغي أن يبدو من المرأة لذوي المحرم إلا السِّوار والخاتم والقُرط)، وأكثر العلماء يجيزون للمرأة في بيتها أن تُظهِر شعرها لأبيها وابنها وإخوتها ونسائها، وهو الأصح، قال ابن القطان في إحكام النظر في أحكام النظر (ص: 239، 240، 380): "الذي تبديه المرأة بمقتضى الآية للأب الشعر والوجه والكفان والقدمان، أما الزيادة على ذلك فلا أرى لها دليلًا، ... ومَن أجازت الآية التبسُّط بحضرتهم والتكشُّف لهم ليسوا سواء، فابنُ بَعْلِها مِن غيرها ليس كابنها، وأبو بَعْلِها ليس كأبيها، وإخوتها وبنيهم ليسوا كأبيها وابنها ... والبطن والصدر والظهر لا يجوز لأحد ممن ذُكِر في الآية النظر إليه إلا البَعْل" انتهى باختصار.
فلا يجوز للمرأة أن تَظهَر أمام محارمها وأمام النساء بلباس ضيِّق يُحجِّم ثدييها أو يُظهِر أعلى صدرها، ولا تلبس بنطلونًا من غير أن يكون عليه فوطة أو لباس يستر مفاتنها، ولا تلبس لباسًا قصيرًا يُظهِر محاسنها، فمن صفات لباس المرأة الشرعي أن يكون واسعًا فضفاضًا لا يُحجِّم جسمها، ولا يكون شفَّافًا، ولا يكون زينة في نفسه، ولا يكون فيه تشبهٌ بالرجال، ولا تشبهٌ بالنساء الكافرات والفاسقات.
فلباس المرأة يجب أن يكون شرعيًا، وهو الحجاب الساتر للعورات والمفاتن دون الزينة حال القرار في البيوت، أو الحجاب الساتر للعورات والمفاتن والزينة عند الخروج من البيوت، فيجب على المرأة أن تتقي الله، وتلبس ما يرضي الله سبحانه سواء كانت في بيتها أو خارج بيتها، سواء كانت أمام النساء أو أمام محارمها من الرجال، وتغطية المرأة مفاتنها عند محارمها وعند النساء عبادةٌ تؤجر عليها المرأة، وهو من الحياء، والحياء من الإيمان، وعلى هذا الحياء استمر نساء الصحابة رضي الله عنهن ومن اتبعهن بإحسان، ولم يكن من عادة نساء المسلمين إبداء أعلى صدورهن أو شيءٍ من بطونهن أو ظهورهن أمام الرجال المحارم، ولا أمام النساء إلا لعذر وحاجة كأن تُرضِع طفلها عند النساء، بل إنَّ بعض المرضعات يحرصن على ستر صدورهن عند إرضاع أولادهن أمام النساء، وهذا من الحياء والإيمان، والحياء كله خير.
والواجب على المرأة المسلمة الصالحة أن تتمسك بدينها وحجابها الشرعي، وذلك أطهر لقلبها، وأكمل لأخلاقها، ومن أفضل أخلاق المرأة الحياء، والحياء من اﻹيمان، فلا يجوز للمرأة اللباس الضيق أو المقطَّع أو البنطلون من غير لبس ثوب عليه إلا عند زوجها، ولبس الثياب الضيِّقة والمقطَّعة والبناطيل عند المحارم أو عند النساء منكرٌ عظيمٌ انتشر مؤخَّرًا بين كثير من النساء بسبب مشاهدة النساء الكاسيات العاريات في قنوات التلفاز وشاشات الهواتف، وبسبب قلة العلم الشرعي وضعف الإيمان وغُربة الإسلام انتشر هذا المنكر في الشوارع والأسواق، وصالات الأعراس والأفراح، والواجب على المسلمة أن تلبس اللباس الساتر لمفاتنها ولو أمام النساء أو أمام أبيها وإخوانها وأعمامها وأخوالها ونحوهم من المحارم الذين يجوز للمرأة أن تُظْهِر لهم الزينة الظاهرة التي تكون في وجهها وكفيها كالكحل والخضاب والخاتم ونحو ذلك من غير إظهار الزينة الباطنة والمفاتن التي لا يجوز إظهارها لغير الزوج.
جواز ترك المرأة العجوز لبس الجلباب أمام الرجال بلا زينة
يقول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]، روى ابن جرير في تفسيره (17/ 360) بإسناد صحيح من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرج لما يكره الله، وهو قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} ثم قال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60])، وروى ابن جرير في تفسيره (17/ 363) بإسناد صحيح عن ابن أبي نَجيح قال: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قال: (الجِلباب في الدار والحُجْرة).
فمعنى الآية: والنساء العجائز اللاتي لا يحِضْن ولا يطمعن في الزواج لكِبَر سِنِّهن لا إثم عليهن أن يتركن لبس الثياب الظاهرة الزائدة على ما يسترهن كالجِلباب واللثام غير مظهرات للزينة، وعدمُ خلع العجائز الجلباب واللثام ونحوها من الثياب الظاهرة الزائدة على ما يسترهن خيرٌ لهن وأفضل من خلعها، فرغَّب اللهُ العجائز في تغطية الوجوه ولبس الجلابيب السابغة، وحرَّم عليهنَّ التبرج بالزينة، وأجاز لهن ترك اللثام وخلع الجِلباب من غير إظهار زينة ولو عند الرجال الأجانب، وهذا يدل على تأكيد أمر الحجاب الكامل لغير العجائز، ويدل على تأكيد النهي عن إظهار المرأة زينتها لغير المحارم والنساء حتى ولو كانت عجوزًا، فتبرج النساء فتنةٌ عظيمة، وقد جعل الله عدم خلع العجائز للثياب الظاهرة من الاستعفاف الذي تؤجر عليه العجوز، فكيف بالمرأة الشابة؟! وإذا كان استعفاف العجائز بلبس الحجاب الكامل خيرًا لهن فما ظنكم بالشابات؟! فالمرأة الشابة التي تكشف وجهها وكفيها عند خروجها من بيتها أو تترك في بيتها لبس الثياب المحتشمة الزائدة على ما يسترها هي في الحقيقة تتشبه بالإماء والعجائز، وقد ذكر العلماء أنه يتأكد وجوب الستر وحرمة التبرج على الحسناء الجميلة أكثر من تأكده على الشوهاء والعجوز والأَمَة. يُنظر: تفسير ابن جرير (19/ 181 - 183)، إحكام النظر في أحكام النظر لابن القطان (ص: 210، 231)، حاشية الطِّيبي على الكشاف (11/ 150)، التفسير المحرر (19/ 462 - 464، 473).
الخاتمة
أختم هذه الرسالة بما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (17/ 291، 292): "كانت نساء المؤمنين في أول الإسلام يلبسن الثياب الساترة، ولا يُعرَف عنهن التكشف والتبذل عند اجتماعهن ببعضهن أو بمحارمهن، وعلى هذه السُّنَّة القويمة جرى عمل نساء الأمة- ولله الحمد- قرنًا بعد قرن إلى عهد قريب، فدخل في كثير من النساء ما دخل من فساد في اللباس والأخلاق لأسباب عديدة، والواجب على المرأة أن تتخلق بخُلُق الحياء، ومن الحياء المأمور به شرعًا وعُرفًا: تسَتُّر المرأة واحتشامها وتخلقها بالأخلاق التي تُبعِدها عن مواقع الفتنة، ومواضع الرِّيبة، وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تُبدي للمرأة إلا ما تُبديه لمحارمها، مما جرت العادة بكشفه في البيت، وهو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا، وتوسعُ المرأة في التكشف عند النساء أو عند محارمها لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة، وهو طريقٌ لفتنة المرأة والافتتان بها، وفيه تشبهٌ بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن" انتهى باختصار وتصرف.
هذا، ولا سعادة للإنسان إلا بالتوبة وطاعة ربه، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، والدنيا أمد، والآخرة أبد، والله خيرٌ وأبقى، والعاقبةُ للتقوى.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيئها لا يصرف عنَّا سيئها إلا أنت.