د. محمد بن جميل المطري
Member
فقه الخطأ
بقلم/ محمد بن جميل المطري
بقلم/ محمد بن جميل المطري
كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فكلنا نجهل أكثر مما نعلم، وكلنا ننسى ونظلم أنفسنا وغيرنا ظلما كثيرا، وكلنا تنطلي علينا كثير من الشائعات، ويخفى علينا كثير من حقائق الواقعات.
وما أكثر ما نشرع في عبادة ما فنقع في بعض الأخطاء في تلك العبادة ونحن لا نقصد إلا القربة!
وما أكثر أخطاء المصلين والمصنفين والمفتين والمدرسين والخطباء والقضاة والدعاة والمجاهدين!
وكل متخصص في علم ما أو عمل ما لا يسلم من الخطأ في تخصصه الذي يحسنه ويمارسه فضلا عن غيره مما لا يتقنه، ولكن من غلب خيره شره فهو على خير، سواء كان ملكًا أو أميرًا أو وزيرًا أو عالمًا أو مفتيًا أو مصنِّفًا أو عابدًا أو مجاهدًا أو طبيبًا أو جماعةً أو دولةً أو غير ذلك.
فمن كان متبعًا لسبيل المؤمنين ويتحرى الحق بقدر استطاعته ويجتهد فيما يقربه إلى الله ثم أخطأ فينبغي عذره ونصحه.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟!
قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله: ((قد فعلت)) كما في صحيح مسلم، والخطأ المرفوع عن الأمة يعم الخطأ في العلم والخطأ في العمل، وهذا من رحمة الله وتيسيره للمسلم من هذه الأمة إذا لم يتعمد الوقوع في الخطأ، قال الله سبحانه: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة (1/ 176): "من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث".
وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن من أقدم على أمر مفسق متأولا لشبهة عنده أنه لا يأثم وأنه عدل لا تجرح عدالته بوقوعه في ذلك الفسق ما دام تأويله سائغًا.
قال العلامة العطار رحمه الله في حاشيته على شرح جمع الجوامع (2/178): "الإقدام على المفسِّق مع الجهل يمنع كونه مفسِّقًا".
وقال ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة (5/239): "إن المتأوِّل الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُكفَّر ولا يُفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم". وانظر كتاب الأحكام للآمدي (2/ 118)، والمسودة في الأصول لابن تيمية ص 265 وشرح روضة الناظر لعبد الكريم النملة (3/ 212).
وقال العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 27): "من فعل فعلًا يظنه قربة أو مباحًا وهو من المفاسد المحرمة في نفس الأمر؛ كالحاكم إذا حكم بما يظنه حقًا بناء على الحجج الشرعية، وكالمصلي صلى على ظن أنه متطهر، أو كمن يصلي على مرتد يعتقده مسلمًا، وكالشاهد يشهد بحق عرفه بناء على استصحاب بقائه فظهر كذب الظن في ذلك كله؛ فهذا خطأ معفو عنه ويثاب فاعله على قصده دون فعله".
وقال الجيزاني في كتابه معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة ص 489 : "مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنهم لا يُكفِّرون ولا يفسِّقون ولا يؤثِّمون أحدًا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة علمية ولا عملية، ولا في الأصول ولا في الفروع، ولا في القطعيات ولا في الظنيات".
وقال الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام ص 114: "الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة، لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به".
وقال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (14/376): "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه وبدعناه، لقلّ من يَسْلم من الأئمة معنا".
وقال المقبلي رحمه الله في العَلَم الشامخ ص 414: "ومن المعلوم أنه ليس من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها".
وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على بعض أهل البدع والضلال في كتابه النافع درء تعارض العقل والنقل (2/102 - 103): "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.. وخير الأمور أوسطها.. والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}".
والعجيب أن الإنسان غالبًا لا يعترف بخطئه ويأتي بالأعذار ولو كانت واهية، ويجعلها كافية لتبرير أخطائه، ولا يبرر لغيره أخطاءه وقد يكون عذره أولى منه! والإنسان مفطور على أن لا يتأفف من الأذى الذي يراه من نفسه والقاذورات التي تخرج منه ويتأذى منها أشد الأذية إذا رآها من غيره! ونرى الإنسان يرجو لنفسه ولمن يحبه النجاة مع يقينه بعدم عصمته ولا يرجو لمن يكرهه النجاة مع يقينه بسعة عفو الله! وقد يحكم الإنسان على نية من يبغضه بالفساد وهو لا يستطيع - لو أنصف - أن يحكم على نية نفسه بالإخلاص! وبعض الناس يتغاضى عن أخطاء نفسه ومن يحبه، ويتمنى سترها في الدنيا والآخرة، وفي نفس الوقت يجتهد في تتبع أخطاء من يبغضه - شخصًا أو جماعة أو دولة - ويتمنى زيادتها ويحرص على نشرها!
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
وصدق الله العظيم في قوله عن الإنسان: {إنه كان ظلومًا جهولًا}.
فالواجب علينا - معشر المسلمين - أن نكون إخوة متناصحين كما أمرنا الله ورسوله، وأن يتولى بعضنا بعضًا، ويحب بعضنا بعضًا، وبهذا يعزنا الله في الدنيا، ويدخلنا الجنة في الآخرة، قال الله سبحانه وتعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) أي: السلام القولي والفعلي، وقد استطاع الشيطان أن يُحرِّش بين المسلمين فصار بعضهم يعادي بعضًا، ويوالي بعضهم من يجب معاداته شرعًا!
قال الله سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}، قال المفسرون: أي إن لا يوالي بعضكم بعضًا وتتركوا موالاة الكافرين تكن فتنة وفساد كبير، كما هو الحاصل اليوم والله المستعان.
فإذا أراد أهل الفضل والدين أن تصلح أمور المسلمين فعليهم أوَّلًا أن يصلحوا ذات بينهم، وأن يوالي بعضهم بعضًا كما أمرهم ربهم، وأن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتفرقوا، {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}.
ولا يجوز مطلقًا التشنيع على عالم إذا أخطأ في مسألة اجتهادية لم يوفَّق للصواب في اجتهاده فيها، ولا يلزم من خطئه فيها أن يكون آثمًا، بل له أجر على اجتهاده، ولا يجوز أن يُشنَّع على من أخذ بقوله من العامة، فإن الواجب عليهم سؤال أهل العلم كما قال الله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، فإن سألوا من يثقون بعلمه فقد قاموا بما أوجب الله عليهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، قال ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (30/79): "الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ... وكذلك قال غير واحد من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولهذا قال العلماء: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكَر باليد، وليس لأحد أن يُلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يُتكَلَّم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلَّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه"ـ.
اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وهيء الأسباب لتحرير المسجد الأقصى، وعز المسلمين، فإنك على كل شيء قدير.